رفيق الحريري… إستثمر في الشباب ليبنوا لبنان المستقبل

زياد سامي عيتاني

عندما حقق رفيق الحريري ثروة طائلة في فترة وجيزة من الزمن، كشف عن طبيعته التي تتصف بالكرم والعطاء والسخاء، فلم تكن ثروته سبباً لنسيان ماضيه الذي يفتخر به، ويعتبره جزءاً أساسياً من مسيرة نجاحه، التي لم تكن لتتحقق لولا ذلك الكفاح المحفوف بعرق الجبين، والعمل الدؤوب بكل صدق.

فثروته لم تفصله عن بيئته، ولم تجعله يحقد أو ينقلب على الواقع الذي نشأ فيه، على غرار كثر من حديثي النعمة، بل كانت حافزاً له ليفيض بإنسانيته الجياشة، ويدق أبواب الفقراء، ويمد يد العون والمساعدة لمحتاجيها، فكان مثالاً يحتذى به في القيم والمبادئ الأخلاقية، وفي مقدمها الانتماء والعطاء والتضحية، وهو العصامي المكافح الذي كان يقطف الليمون ليساعد والديه على المعيشة، في وقت أغدقت عليه والدته حباً، رافقه طوال حياته وبثه على العالم من حوله فيما بعد، إذ كانت تربطه بها علاقة مميزة، فكان يستيقظ معها لأداء صلاة الفجر ثم مساعدتها في العجين لتحضير الخبز.

وفي مرحلة الدراسة الجامعية، عمل محاسباً في “دار الصياد” نهاراً، ومصححاً في جريدة “الأنوار” ليلاً، ليتمكن من إكمال تعليمه الجامعي.

كل هذا الحب الذي اكتسبه من عائلته الصغيرة، جعل منه “ينابيع” من الحب المعطاء تجاه عائلته الكبيرة (لبنان)، من دون أن تغيّره الثروة، فبقي متواضعاً، مؤمناً، محباً لعمل الخير ومساعدة الآخرين، وفياً لأصدقائه من أيام المدرسة والبساتين، مرحاً يمازح كل الناس من حوله، وصاحب قدرة هائلة على الصبر والتحمل والانفتاح على الآخرين.

إنه رفيق الحريري، الذي بقي يشتم رائحة زهر الليمون، وتسكن ذاكرته قلعة صيدا وبحرها وأناشيد صياديها.

البداية من صيدا:

ولأن الأقربين أولى بالمعروف، ولأن مبادئ الوفاء التي اكتسبها من تربية والديه له متجذرة فيه، كانت بداية عطاءاته السخية في مدينته التي احتضنته، ليرد لها الجميل، قبل أن تتوسع مكرماته لتطال الوطن بأسره، حتى أضحى كزخات المطر، أينما هطل نبت خير.

وأول ما بادر إليه رفيق الحريري إعادة بناء مدرسته القديمة في صيدا، التي أصابها الاهمال، ثم شرع في توفير المنح الدراسية للطلاب النجباء من الذين لا قدرة لذويهم على تأمين نفقات تعليمهم، من خلال مؤسسة تديرها شقيقته بهية.

وكلما كان ينعم الله عليه بالخير، كان يعمه على مدينته، فلم يتأخر في دعم مؤسساتها الناشطة في المجالات الاجتماعية، كما أنه لم يبخل في المبادرة إلى ترميم الأبنية والأسواق والمساجد التراثية والتاريخية، إضافة إلى تحسين الطرقات والساحات، وغيرها الكثير من أعمال الدعم والمساعدة.

مجمع كفرفالوس:

في العام 1979 بدأ الحريري برنامجه الأكثر طموحاً لمساعدة الشباب اللبناني في صيدا، وذلك بتأسيس مؤسسة تربوية إسلامية، تحولت لاحقاً إلى “مؤسسة الحريري”، التي قدمت منحاً دراسية لثلاثة عشر طالباً، (تحولت منتصف الثمانينيات الى أكبر ممول للمنح الدراسية الجامعية التي تعد الأكثر تنوعاً على مستوى العالم).

وفي العام نفسه، أطلق الحريري المشروع الطموح والفريد في وقته، “مشروع كفر فالوس” الذي إختار له هذا الاسم لقرب موقعه من القرية التي تحمل الاسم نفسه، والواقعة على ملتقى طرق تؤدي إلى منطقة الشوف، والبقاع الغربي والنبطية في الجنوب. والمشروع عبارة عن مدينة تعليمية وإستشفائية متكاملة، ويضم مستشفى، ومركزاً للأبحاث الزراعية، ومعهداً للتمريض، وجامعة تكنولوجية، ومدرسة متوسطة، وأخرى ثانوية. وكان سينجز على مساحة تزيد عن مليون متر مربع، وتقدر تكلفته بحوالي مائة مليون دولار، وممولة من الحريري، الذي حث معاونيه وأسرته على إنجازه في وقت قياسي.

وقد مثل هذا المشروع وعداً بتوفير إمكانات تربوية أفضل لسكان بعض المناطق الادارية في لبنان، التي كانت تعد من بين الأقل نمواً.

وبحلول العام 1982، كان المشروع جاهزاً في ما يتعلق بالمباني والمعدات والأجهزة، كما تم التعاقد مع جامعة فرنسية رفيعة في لبنان لادارة كليات الجامعة والمستشفى، والاتفاق مع “الانترناشونال كوليدج” لادارة المدرسة الثانوية. وعلى الرغم من جهوزية هذا المشروع العملاق، فإن الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، أطاح به عن بكرة أبيه، بعدما تمركز الجيش المحتل في مبانيه، وجعلها مواقع عسكرية له.

وعندما إنسحبت قوات الاحتلال الإسرائيلي في العام 1985 من صيدا ومحيطها، سرقت من “مجمع كفر فالوس” جميع المعدات والأجهزة، في وقت كانت مبانيه ومنشآته متهالكة، وبالتالي إستحالة إستخدام مرافقه، وحتى إعادة ترميمها وصيانتها!

وفي العام 1986 حاول المتعاونون مع اسرائيل إعادة الأجهزة والمعدات إلى الحريري بسعر مخفض، إلا أنه رفض ذلك العرض. وبذلك، سقط واحدٌ من أهم أحلام رفيق الحريري، من دون أن تسقط عزيمته على مواصلة مسيرته الداعمة والممولة لمشاريع التنمية والنهوض على كل الصعد والمستويات.

بناء جيل من المتعلمين:

لم يتعلم رفيق الحريري بسهولة في مراحل تعليمه المدرسية والجامعية، لذلك كان يشعر دائماً مع المحتاجين من خلال توفير فرص التعليم لهم. لذلك، إستثمر في الشباب الذين هم صنّاع المستقبل، وفتح لهم طريق المعرفة والعلم بعد سنوات من الدمار والقتل والدماء، سار بهم من التعليم إلى العمل، فبناء الوطن، وزرع فيهم بذرة الانتماء الى الوطن.

أسس جيلاً كاملاً من حملة الشهادات العالية، في وقت كان غيره يبني ميليشيات مسلحة من فئة الشباب المهمّشين. هذا الجيل الذي باشر ببناء لبنان، كان يؤمن بأن التعليم هو المفتاح الأساس للحوار والانفتاح على الآخر.

كان يبني وطناً للمستقبل، من خلال الاستثمار في الانسان، الذي هو أهم رأسمال للبنان. هذا ما جعل المشروع التعليمي التربوي لرفيق الحريري، المشروع الأحب الى قلبه، الذي كان يفتخر به كثيراً من بين مشاريعه العديدة، وعلم من خلاله 35 ألف طالب من مختلف الديانات والطوائف، تحمل نفقات تعليمهم في كبريات الجامعات المرموقة في لبنان وفرنسا وبريطانيا وأميركا وكندا وإيطاليا، في مختلف الاختصاصات، وقد فاق إجمالي ما أنفق في هذا العمل الخيري مليار ونصف المليار دولار.

ظهرت “مؤسسة الحريري” لأول مرة عام 1979 في مسقط رأسه صيدا، من خلال نشاط محدود في المدينة وفي منطقة الجنوب. غير أن المؤسسة عرفت لاحقاً حين تحولت إلى دينامية عملاقة، نفّذت برنامجاً طموحاً لتقديم المنح الدراسية للطلاب اللبنانيين في الخارج.

حدث هذا التحول عام 1983، أي قبل 6 سنوات من إبرام الاتفاق الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990) في مدينة الطائف في السعودية عام 1989.

ويعتبر مشروع رفيق الحريري التعليمي أهم إنجازاته التي خاطب من خلالها المجتمع اللبناني عن طريق التحصيل العلمي، خصوصاً ذي المستوى العالي في كبريات الجامعات في أنحاء العالم. ويسجل له أنه لم يربط منح مؤسسته بولاء المستفيدين منها، بحيث أنه كان يريد لتلك المنح الدراسية أن تخلق دينامية سياسية أراد إستثمارها في إعادة بناء لبنان ونهضته ما بعد الحرب، كما كان يطمح إلى أن توفر عودة الخريجين مناخاً إجتماعياً وبيئة علمية قادرة على حمل مشروعه السياسي التنموي والانخراط فيه.

غير أن جهود “مؤسسة الحريري” أيقظت قلقاً لدى كل الطبقات السياسية اللبنانية التي فوجئت بسلوك جديد يستخدمه رجل طموح، على نحو يهدد النفوذ التقليدي لبيوتات سياسية داخل الطوائف اللبنانية.

وكمن مصدر القلق آنذاك في أن “مؤسسة الحريري”، وفقاً لتعليمات مؤسسها، كانت توزع المنح الدراسية على الطلاب اللبنانيين من دون أي تمييز سياسي أو مناطقي أو مذهبي، وأن الافادة من هذه المنح لم تكن حكراً على طلاب الطائفة السنية التي ينتمي إليها الحريري، كما هو معتمد من بعض المموّلين اللبنانيين الذين كانوا يستخدمون الجمعيات الخيرية للنفاذ إلى السياسة داخل طوائفهم.

فالحريري عمد إلى تحضير الأدوات وخلق جيل جديد متخلص من مفردات الحرب الأهلية وقواعدها الايديولوجية.

إنه رفيق الحريري المؤمن بأن العلم رأس مال لا يفنى، وأن غاية العلم الخير، وأن المستقبل للأكفاء. هو من خاطب ذات يوم الشباب والطلاب بلغة الأب الراعي قائلاً: “رأس مالكم هو علمكم، أما عدوكم فهو جهلكم، فتزودوا بالعلم وأنا الى جانبكم، أما شرطي الوحيد لكم فأن تكونوا قادرين على إفادة وطنكم”. فاستحقوا عن جدارة لقب “أجيال رفيق الحريري”.

لقد موَّل رفيق الحريري الكثير من المجالات الأجتماعية، وتكفل بتعليم ثلاثين ألف طالب لبناني داخل لبنان وخارجه. وأسهمت خطة التعليم التي تبناها وطالت فئات إجتماعية شتّى، في تكوين طبقات إقتصادية متساوية بين مختلف شرائح المجتمع اللبناني، وأنفق مليارات الدولارات من ثروته الخاصة، لإعادة إبراز ملامح الهرمية الاجتماعية في لبنان، وبنى جيلاً من الشباب الواعد من حملة الشهادات العليا في مختلف الاختصاصات، ليساهموا في إعادة بناء لبنان المستقبل، فتح لهم طريق المعرفة والعلم والمواطنة والانتماء الوطني بعد سنوات من الدمار والقتل.

كلمات البحث
شارك المقال