مشروع رفيق الحريري… نهج المستقبل الواعد والموعود

فاطمة حوحو
فاطمة حوحو

شكراً رفيق الحريري لأنني تعرفتُ إليك… منذ أن وطئتْ قدماكَ القصر الحكومي في العام 1992، وحوَّلْت سرايا وزارة الخارجية السابقة إلى سرايا حكومية في الصّنائع، وجعلتنا نحن الصحافيين نتابع بدهشة ما حصل، كيف أضيئت تلك الغرف المعتمة، وازدانت الجدران بلوحات بديعة من الفن التشكيلي، وفُرش البساط الأحمر، الذي جذب إلينا العالم بعد أن كنا نسْياً منسياً، بُعيْدَ حرب أكلت الأخضر واليابس، وجئت أنت محاطاً بلبنانيين آمنوا بمشروعك الوطني في البناء والتغيير، وقدرتك على قلب الصورة، ليعود لبنان إلى أحضان العالم العربي ويحظى بدعم الخارج واحترامه وثقته.

استطعتَ أن تستقطب الجميع إلى مشروع كان مجهولاً بالنسبة إلى الكثيرين، ولم تكن تكثر من الكلام والشرح، بل كنا كل يوم نشهد تغييراً على الأرض، حتى أنني تساءلتُ مرَّةً لماذا يعمل على تغيير الأرصفة؟ لأكتشف لاحقاً كم كانت أرصفتنا لا تليق بأي عاصمة، ولماذا تبلط شوارع المدينة التجارية بأسلوب جديد، ولماذا يجري تشجير كورنيش البحر؟ كنا نرى ولا نصدق أن هناك من يهتم بشوارعنا ومدارسنا ومستشفياتنا وجامعاتنا. كنا من جيل الحرب، أبناء بيروت الغربية، وأصحاب مشروع وصف بــ”الوطني” و”القومي”، لنكتشف لاحقاً أن من أسميناه “انعزالياً”، واتهمناه بالعمالة، يحب وطنه مثلنا وربما أكثر، وأننا نحن جميعاً لبنانيون، لم يفرقنا ساتر ترابي، أو قناص مختل، أو جيش محتل من هنا وهناك، أو فكرة كان يمكن لنا أن نناقشها أو نحوّلها إلى مشروع نصوّت عليه مثل الأمم والشعوب المتحضرة، عبر آليات الحكم الديموقراطي، لكن البعض اختار سبيلاً آخر وفقاً لموارد رزقه مالياً وأيديولوجياً.

وكل ذلك قبل أن نرى ورشة إعمار وسط بيروت والنتيجة البارعة المبهرة، كان كل شيء يتغير رويداً رويداً. وثقنا بأن لبنان سيعود دولة، وأن مؤسساته ستكون في خدمة كل مواطنيه، على الرغم مما كلف ذلك، لا سيما وأن أزلام النظام السوري ومخابراته وتابعيهم، فتحت شهيتهم على الابتزاز لعرقلة مشروع البناء، الذي لم يكن أبداً مشروع بناء من اسمنت وحجر كما اتهموك، بل كان سقفاً ضرورياً لبناء الانسان وحمايته، عبر تأمين الخدمات الصحية والتعليمية والبنى التحتية اللازمة حتى يرتفع وينمو.

كنت تحلم، وكنا نتعلم أن نحلم معك. كنت جبلاً قوياً نتكئ عليه ونحن نسمع جعجعة من هنا وهناك، تخرج من أبواق أجهزة المخابرات، تارة تتهمك بالعمالة لاسرائيل، وأنت الذي شرّعت مقاومة الاحتلال في أعلى هيئة أممية، وتارة بأنك هدرت أموال الدولة وزدت مديونيتها، علماً أن صرف تلك الأموال كان يظهر في تنفيذ المشاريع العملاقة التي غيّرت وجه لبنان واستعادت إشراقه وازدهاره، بينما غيرك اليوم صرف مليارات الدولارات على الكهرباء، ويظل يكذب علينا منذ أكثر من عقد ونصف، فيعدنا بــ 24 ساعة كهرباء ولا نزال نعيش في عتمات الظلمة وكبوات الظلام.

عندما كنت ألتقي أصدقاء أو زملاء من زمن “ما قبل الطائف”، كانوا يسألونني أين تتواجدين؟ فأسمّي لهم مقهى “الإتوال” في ساحة النجمة. ويسألونني أين تسهرين؟ فأقول: في “بودابار” في ساحة رياض الصلح. وعندما يسألونني أين تتعشين؟ أخبرهم: في “كرم”، وراء مبنى مجلس النواب. فيتعجبون ويقولون: “ألم تعد “الحمرا” لائقة إذاً؟!” عندها أضحك بملء الحبور، وأجيبهم: “هناك عالم آخر وسط بيروت. عالم يطل على الآتي والمستقبل من دون إهمال جمالية الماضي وأصالته. إنه وسط العاصمة التي مشيتُ فيها طفلة، وهي جزء من ذاكرتي الموشومة عن لبنان الموحد، وليست الحمرا التي تحولت خلال الحرب إلى رمز عاصمة منقسمة، جزءها الآخر في الأشرفية، إنه وسط بيروت رمز الوطن”.

لا أعرف ماذا يمكن أن أقول لك عن أحوالنا اليوم!

اليوم نفهم أكثر لماذا اغتالوك، وكل يوم يمر علينا ونحن نعيش في جهنم بعدك، ندرك أن حجم المؤامرة، أجل المؤمراة (وإن كان البعض اليوم يسخر من هذا)، حجمها كبير جداً يستهدف تغيير وجه لبنان العربي، وللقول إن أي مشروع نهضوي، حداثي، متقدم، يساير تطورات العصر، هو مشروع فاشل وغير قابل للحياة، لكن “ثورات الربيع العربي” على الرغم من ثغراتها وإخفاقاتها وما يمكن مؤاخذتها عليه، وما ووجهت به من اختراقات وقمع وقتل وحرب، ستبقى متوهجة تضج نابضة بالآمال. وفي وطننا اندلعت “ثورة 14 آذار”، واشتعلت “ثورة 17 تشرين”… صحيح حصلت ردود الفعل، والناس منشغلون اليوم بإطفاء نيران جهنم التي أشعلها الفاسدون، الذين لم نر على شاكلتهم من قبل، وقد فضحوا أمام أنظار العالم، ولكن انتظارات اللبنانيين قد لا تطول، وهم يستعيدون قوتهم من أجل الحفاظ على كراماتهم.

فمن منهم ينسى وطناً أسسه رفيق الحريري وعاش اللبنانيون في رغده، لا سيما بين العامين 2000 و2004؟

رفيق الحريري نعدك بأننا سنبقى نحلم بلبنان الحاضرة الثقافية المتميزة المتنوعة رغم أنف الجميع. وأننا سننهض حتماً من تحت الردم والحطام الذي يصرُّ أزلام الظلامية وصانعو الآلام والكوارث وزلازل التفجيرات، أن يغطوا به عقول البشر وأنفاسهم وأعينهم، حتى تمحى معالم طريق الحرية والآمال والتقدم، ويتم نسيان نهج المستقبل الواعد والموعود.

لن ننساك يا رفيق… أبداً لن ننسى.

كلمات البحث
شارك المقال