رفيق الحريري… وطن في رجل

زياد سامي عيتاني

في الوقت الذي اقترب فيه لبنان من الانهيار الشامل، والقلق الجدي الذي يهدد وجوده ومستقبل بنيه، بعدما سقطت مقومات الدولة المخطوفة، وتقوّضت مؤسساتها وإداراتها، وأعلن إفلاسه، ونهبت ماليته العامة ومدخرات اللبنانيين، وبات يعيش عزلة مطبقة عن محيطه العربي والمجتمع الدولي، يتذكر اللبنانيون بحسرة ومرارة، ذلك الرجل الذي إنتشل لبنان وشعبه “الطيب” من هاوية الحرب الأهلية، وأرسى مداميك السلم الأهلي، وأطلق مسيرة الإنماء والإعمار والعجلة الإقتصادية، فأرجع وطنه “الحبيب” إلى واجهة الاهتمام، مما أعاد ثقة اللبنانيين بلبنان “المستقبل”.

إنه رفيق الحريري… ذلك الأمير الذي عاد بتواضعه المعهود، إلى وطنه، ليمحو عن وجهه فظاعة الخراب وينفض عنه الغبار والدمار، بعدما وجده مقطع الأوصال، وتخيّم على ربوعه فلول الظلام.

عندما نذكر السلم والسلام، يحتل مساحة العقل والبصر والزمان، ساحر ماهر يحمل الأمان إسمه رفيق الحريري.

قصته لا تشبه إلا قصته. ثروته التي جناها بالصدق والمثابرة والالتزام، لم تدفعه الى الاستقالة من وطنه المتداعي، بل جعلته يرد له الجميل، ويحقق طموحاته الوطنية، فوضع كل قدراته ووظفها لإنقاذه، فكانت بداية المشروع الطموح.

كانت أحلام رفيق الحريري كبيرة بحجم الوطن، الذي سعى إلى إنقاذه ووقف الحرب المدمرة وإعادة بنائه وإزدهاره.

ومع تنامي دوره الاقتصادي والسياسي، عُيّن مبعوثاً شخصياً للملك فهد بن عبد العزيز في لبنان، حيث لعب دوراً سياسياً نشطاً، أهله لتولي رئاسة الحكومة اللبنانية عدة مرات، والبدء بإطلاق الإنماء والأعمار.

لقد إتسم بقدرته الفائقة على الحوار وتدوير الزوايا، منفتحاً على كل التيارات السياسية، بعيداً كل البعد عن التعصب الطائفي والمذهبي، وحتى التحجر السياسي. أراد النهوض بالوطن، فاهتم بتحسين كل المجالات، وبدأ بمساعدته وهو لا يزال بعيداً عنه، لأنه كان دوماً داخل الحدث، إلى أن أضحى هو الحدث.

وفي ما يلي بعض المحطات الأساسية والمفصلية في مسيرة رفيق الحريري، التي دفعت اللبنانيين الى أن يعلقوا آمالهم عليه كمنقذ للوطن:

إزالة آثار الاجتياح الاسرائيلي:

ولأن كل انسان وطني يفكر في وطنه أولاً وأخيراً، فإن رفيق الحريري كان يدمي قلبه ما يجري فيه من حروب ودمار، يتردد على بيروت وتدمع عيناه لما حل ببلده، ويقدِّم المساعدات والمنح من دون أن يعرف أحد بها لأن همه كان مساعدة أبناء وطنه.

عام 1982 بعد الغزو الاسرائيلي للبنان وما خلفه من دمار هائل، وضع الحريري كل إمكاناته بتصرف الدولة لإزالة آثار حصار بيروت، حيث أنجز فريقه الهندسي أعمال إزالة مخلفات الحرب المدمرة، وإعادة خدمات التزود بالمياه، وفتح الطرق أمام حركة سير السيارات، وإنعاش الوحدة اللبنانية، بعد إعادة فتح المناطق على بعضها البعض.

وشرعت شركة أبحاث في عام 1983 في إجراء دراسة جدوى حول إحياء الوسط التجاري لبيروت، وأنجزت الدراسة في عام 1984 وشملت إجراء مقابلات مع 270 مستأجراً تجارياً ومقيماً في المنطقة قبل العام 1975. وفي الوقت نفسه وبحجم أوسع أبرم عقد مع “دار الهندسة والشاعر وشركاه”، التي تعد أكبر شركة استثمارية هندسية في الشرق الأوسط ومقرها لبنان، لانجاز خطة رئىيسة لاعادة بناء منطقة الوسط التجاري في بيروت، وشارك في مهمة الاعداد ووضع الجدول الزمني لها مئات المهندسين والمصرفيين، والخبراء والقانونيين والمحاسبين والمخططين الخ… ولم يكن بالمستطاع تحقيق هذا الطموح حتى صدور قانون في العام 1993 بدأ بموجبه العمل الذي نفذته شركة جديدة تم تأسيسها وهي شركة “سوليدير”.

مساعي المصالحة الوطنية:

لقد شارك الحريري قبل الانخراط الكامل في العمل السياسي، خلال الثمانينيات في شبكة سياسية معقدة إستهلكت منه الكثير من الوقت والجهد في محاولة لإنهاء الحرب، بتكليف من المملكة العربية السعودية، بحيث أسهم عام 1987 بفاعلية في مؤتمري “جنيف” و”لوزان” لتوطيد دعائم الوفاق الوطني اللبناني، غير أنهما لم يسفرا عن وقف الحرب اللبنانية، ولكنه لم يكن يشعر البتة باليأس من الفشل المتكرر في محاولات المصالحة الوطنية، مراهناً على اللحظة الاقليمية والدولية السانحة.

دعم الجيش:

كان الحريري يعمل بإستمرار من أجل المصالحة السياسية اللبنانية والمحافظة على المؤسسات العامة، وتحديداً الجيش اللبناني الذي عانى الانقسام في 1984، وكان على وشك الانهيار بسبب إنعدام المصادر. فقدم الدعم له بتحويلات بلغت نصف مليون دولار في الشهر ما بين العام 1985 إلى 1988، (وللمفارقة كان العماد ميشال عون حينها قائد الجيش، الذي أقر مراراً بهذه المساعدة!).

إنقاذ الجامعتين الأميركية واليسوعية من الاقفال:

في منتصف الثمانينيات كانت أقدم جامعتين في لبنان، أي الجامعة الأميركية وجامعة القديس يوسف (اليسوعية) على وشك إغلاق أبوابهما، إلا أن دعم الحريري حافظ على إستمرارهما، لتبقيا مؤسستين بمستوى عالٍ في مجال التعليم المتقدم.

إتفاق الطائف:

كانت للرئيس الشهيد اليد الطولى في الاعداد لمؤتمر “الطائف” وتسهيله، وقد أبرم في خريف العام 1989، ليوقف الحرب اللبنانية، بعد 15 سنة من المعارك الضارية، وما لبث الاتفاق أن تحول الى دستور جديد للبنان.

وكانت بصمات الحريري واضحة في كل تفصيل، وكان أحد كبار المشاركين في صياغته. فبمساعدة السعودية تمكن الحريري من تحقيق النجاح في جمع غالبية كافية من النواب اللبنانيين ممن إجتمعوا في الطائف لفترة 23 يوماً، لوضع الخطوط العامة لدستور جديد، عرف باسم “إتفاق الطائف”، وتوقف القتال بين الأطراف المتنافسة، وانتخب رئيس جديد هو الرئيس رينيه معوض في تشرين الثاني من العام نفسه.

وفي يوم الاستقلال 22 تشرين الثاني 1989 إغتيل الرئيس معوض بتفجير موكبه، تماماً مثلما حدث مع الحريري بعد 15 سنة لاحقة. فانتخب غداة إغتياله النائب إلياس الهراوي رئيساً للجمهورية، وقدم له مقراً مؤقتاً لرئاسة الجمهورية في بناية راقية في الرملة البيضاء، حتى الانتهاء من ترميم القصر الجمهوري، الذي هدم من جراء إستهدافه بالمقاتلات السورية، عندما إتخذ قرار إنهاء تمرد ميشال عون.

الاعلان عن برنامجه الوطني من “الأميركية”:

في العام 1991، دعي الحريري بصفته أحد أمناء الجامعة الأميركية في بيروت إلى إلقاء خطاب حفل التخرج أمام أكثر من 778 طالباً، وتحدث عن حاجة جميع الأطراف اللبنانية الى التعاون في بناء المؤسسات السياسية والبنية التحتية للبنان. وشدد على أن حقوق كل الطوائف مضمونة في “إتفاق الطائف”، وأنه لا يمكن لأي طرف حشد قواه السياسية ونفوذه على حساب طرف آخرِ، وأقر بأنه لم يتم تحقيق أهداف الاتفاق.

وقال: “علينا أن نعمل جميعاً يداً واحدة لانقاذ لبنان من المأزق السياسي والدمار المادي، ويجب على كل الطوائف التعاون مع الرئيس ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب لضمان مستقبل أفضل لأبنائنا”….

وبالنسبة الى رؤيته عن بيروت، إعتبر الحريري أنه “يجب أن يقتصر على سرعة بناء البنية التحتية المدمرة، وإعادة الحياة الى العاصمة وجعل بيروت مركز جذب للتجارة والإستثمار، وجعل لبنان مقصداً للزائرين العرب والأجانب”….

كان ذلك الخطاب للحريري، أول بيان سياسي شامل له، عبّر من خلاله عن رؤيته لكيفية الانتقال بلبنان من مرحلة الحرب إلى مرحلة السلام، ما جعل اللبنانيين وعواصم القرار يعوّلون ويراهنون عليه بقدراته الخارقة وتفوقه وتألقه ليتولى رئاسة الحكومة، ووضع هذه الرؤية موضع التنفيذ، مما جعله لاحقاً يتفرغ للعمل السياسي من أجل وطنه.

كلمات البحث
شارك المقال