الزلزال “فضح” لبنان ولم يحرر الأسد!

أنطوني جعجع

الى ماذا يحتاج فريق الممانعة في لبنان بعد كي يقتنع بأن عصر آل الأسد في دمشق قد بات في المقاعد الخلفية على المستويين العربي والدولي، وأن سوريا التي تحالف معها تاريخياً وراهن على دورها وجيشها ونظامها وحزبها الحاكم قد تقطعت أوصالاً وأعراقاً وطوائف وولاءات؟

وهل يحتاج الى زلزال آخر يقضي على آلاف آخرين من المدنيبن الأبرياء كي يدرك أن النظام الحاكم في دمشق ممنوع من التنفس الا داخل محور محدود يمتد من بيروت الى طهران، وأن القطيعة معه ليست مزاحاً ولا ضغطاً صورياً ولا مناورة موقتة؟

مشكلة بعض السياسيين اللبنانيين المحسوبين تقليدياً على النظام السوري، تكمن في أن “الحنين” يدفعهم الى الزمن الذي كانت سوريا تقرر عنهم وتقاتل عنهم وتفتح لهم أبواب السلطة والنفوذ والمال، وفي رفضهم الاقرار بأن بشار الأسد لم يعد قادراً على الحل والربط في لبنان، ولم يعد يملك القرار الأول ولا الخيار الأول، وأنه بالكاد يمثل “شريكاً” للعراب الجديد في لبنان أي ايران وحليفها “حزب الله”.

ومشكلتهم أيضاً، أنهم لا يعرفون أو يقدرون أو يجرؤون على التخلي عن الجار السوري كلٌ لهدف ما أو هاجس ما، اذ أن “حزب الله” والقسم الأكبر من البيئة الشيعية يرون في الأسد معبراً أساسياً دخلوا منه الى السلطة، وحلقة مهمة في الاستراتيحية الايرانية من جهة، وشريكاً في الحرب على الأصولية السنية من جهة وعلى الأنظمة أو الغالبيات السنية التي تحيط بايران أو بهلالها المنشود أي العراق وسوريا وفلسطين واليمن وقسم من لبنان من جهة أخرى.

وفي المقابل ترى البيئة السنية، باستثناء القسم الأكبر من “تيار المستقبل” بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، في الأسد رافعة سياسية وحتى أمنية، تمنع الى حد ما السيطرة الشيعية المطلقة على البلاد، تماماً كما فعلت عندما منعت السيطرة المارونية على الكثير من مفاصل الدولة، وأن البيئة المسيحية، لا سيما الطامحة منها، ترى في الرئيس السوري مفتاحاً أساسياً في لعبة الانتخابات الرئاسية، لا بل في لعبة التوازنات السياسية والمحاصصات الطائفية في لبنان.

والواقع أن كل هؤلاء، يعيشون خارج الزمن لا بل خارج الخارطة الجديدة التي أعقبت انسحاب الجيش السوري من لبنان والحرب الأهلية السورية التي حوّلت بلاد الشام الى مجموعة بلدان غير معلنة وغير معترف بها علناً على الأقل سواء من الغرب أو من الشرق.

وما يؤكد هذا المشهد، الزحف الرسمي غير المدروس في اتجاه قصر المهاجرين تحت ستار “التضامن والأخوة”، وهو ستار لم يكن بالنسبة الى المجتمع الدولي وقسم كبير من المجتمع العربي، الا تطبيعاً فجاً وعلنياً ومباشراً مع نظام معزول يكاد يجمع العالم كله على ضرورة محاسبته وعزله لا تبرئته ومبايعته.

ولم يتنبه الفريق الحاكم في “لهفته” حيال الأسد، الى أمرين أساسيين، الأول صرخات أهالي ضحايا المرفأ الذين يرون بصمات سورية في عملية التفجير، والثاني العقوبات المفروضة، سواء ظلماً أو صواباً، على النظام السوري، والاصرار العالمي على عزله ومقاطعته وقطع الطريق على أي سبيل يعيد دمشق الى الحظيرتين العربية والغربية.

وأكثر من ذلك، أظهر الفريق الحاكم من حيث يدري أو لا يدري، أنه شريك في حرب النظام الحاكم على المعارضة السورية، وذلك من خلال الامتناع عن ارسال مساعدات أو فرق انقاذ الى الشمال المنكوب واعتباره جزءاً عاصياً على النظام أكثر منه على الكيان السوري.

أضف الى ذلك، أن الفريق الحاكم أعطى النظام السوري نافذة سياسية متسرعة، على الرغم من ادراكه أن ما يفعله قد لا يستميل سوريا في ترسيم الحدود البحرية، ولن يسمح بالحفاظ على ما تبقى من خطوط تواصل مع الشرق والغرب معاً.

انه الغباء المطلق، حسب ديبلوماسي غربي أفاد بأن التعاطف الرسمي اللبناني مع كل من النظامين الحاكمين في دمشق وطهران، طغى على أي فرصة يمكن أن تتعامل مع لبنان كدولة تتمتع بالحد الأدنى من الاستقلالية والانفتاح.

وأضاف أن جل ما فعله الفريق الرسمي لم يكن الا تطبيعاً مجانياً خدم الأسد معنوياً وحسب، ووضع لبنان كله علناً وجهاراً في محور الممانعة وليس “حزب الله” وحلفاءه وحسب، خصوصاً أن جولته لم تشمل تركيا، الدولة الفاعلة أيضاً في بعض الملفات اللبنانية.

وقال ديبلوماسي غربي آخر تعليقاً على موقف لبنان الرسمي، ان ما جرى كان بمثابة الكشف عن النيات الحقيقية المبطنة، وان الأمر قبل الزلزال لم يكن التزاماً لبنانياً بقانون “قيصر” بقدر ما كان خوفاً من تطبيقه علناً، مشيراً الى أن الحكومة التي يطغى عليها محور الممانعة كانت تبحث عن ثغرة لتعويم الأسد، فجاءت من الزلزال، وعلى أشلاء اَلاف المدنيين العالقين تحت أنقاض ادلب وريف حلب الخاضعتين لسلطة المعارضة.

ولفت الديبلوماسي الغربي الى أن وفداً رسمياً برئاسة وزير الخارجية عبدالله بو حبيب الطامح الى الرئاسة الأولى، أثبت لمن يشكك بعد، أن لبنان الرسمي ليس جدياً في موضوع النأي بالنفس، وأنه يؤيد تماماً الحرب التي يخوضها “حزب الله” الى جانب النظام الحاكم في سوريا.

ولم يكن من باب المصادفة، أن يتزامن التطبيع اللبناني – السوري مع موقفين لافتين من الولايات المتحدة وفرنسا اللتين ميزتا بين مساعدة المنكوبين وتحرير النظام من عزلته، وهو ما شكل رسالة استياء أو حتى توبيخ لسلطة تطلب مساعدة المجتمع الدولي للقيام من أزماتها، وتتعاطف في المقابل مع نظام يتحمل مع حلفائه القسم الأكبر مما أصاب لبنان من تفجيرات واغتيالات وسرقات وفساد وتهريب وسواها من الموبقات.

وقد يقول قائل، ماذا كان يمكن أن يفعل لبنان الرسمي حيال كارثة انسانية بهذا الحجم؟ والجواب يأتي من سؤال بديهي: ألم يكن ممكناً استبدال الوفد الرسمي بقوافل مساعدات وفرق انقاذ تعبر الحدود نحو سوريا، تماماً كما كان يحدث في عمليات التهريب التي جففت موارد لبنان المالية والغذائية والطبية والوقودية، وتماماً كما فعلت دول غربية وعربية هبت لنجدة المنكوبين في منطقتي المعارضة والنظام معاً؟

وانطلاقاً من كل ما تقدم، يتأكد أن لبنان ليس في المنطقة الرمادية كما تحاول السلطة الحاكمة الايحاء به، بل هي مع الأسود أو مع الأبيض لا فرق، وأن كل ما يتعلق بسياسة النأي بالنفس ليس الا شعاراً غير قابل للتطبيق لا بل ممنوع من التطبيق.

وانطلاقاً من هذا المشهد، يمكن القول ان السلطة الحاكمة في بيروت، قررت، عن قصد أو عن غباء، عزل نفسها تماماً وربط مصير لبنان بمصائر سوريا وايران و”حزب الله”، وأن الطامحين الى الرئاسة الأولى الذين يعتقدون أن مفتاح القصر الجمهوري في بعبدا لا يزال قي قبضة الأسد، اما لا يجيدون القراءة في الخارطة الإقليمية الجديدة، واما يجهلون أن لبنان لم يعد حديقة خلفية للنظام بقدر ما أصبح بالتوازي مع سوريا، حلقة في الاستراتيجية الايرانية التي تخوض صراعاً مريراً مع العالم يمتد من شوارع طهران الى جبهات القتال في أوكرانيا.

في اختصار، يمكن القول ان “حزب الله” نجح في جر لبنان الرسمي الى محور سوريا – ايران وعلناً هذه المرة، واستغل طموحات بعض الموارنة المسترئسين ومنهم عبدالله بو حبيب، وبعض السنة “الحائرين” ومنهم الرئيس نجيب ميقاتي، لاعطاء التطبيع مع سوريا طابعاً وطنياً لا شيعياً وحسب.

وفي اختصار أيضاً يصر المراقبون والمحللون السياسيون على القول ان ما فعله الوفد اللبناني في قصر المهاجرين لم يكن دهاء من “حزب الله” بقدر ما كان تهوراً أو سذاجة ممن يدير دفة الحكم في لبنان، مرجحين أن تكون البلبلة التي غعقبت لقاء باريس ناتجة عن اقتناع خارجي بأن لبنان قرر أن يكون في مكان اَخر، وهو مكان لا يجدون فيه ما يستأهل التدخل لإخماد حرائقه، وأن نظرة العالم الى لبنان لن تكون نظرة محببة عندما ينكشح غبار الزلزال ويبدأ فرز الأسماء والملفات.

شارك المقال