رفيق الحريري… عاشق بيروت حتى الاستشهاد

زياد سامي عيتاني

أحب الرئيس الشهيد رفيق الحريري معشوقته بيروت حتى الاستشهاد… كان يجول في شوارعها كالفراشة فرحاً، يداعب خيوط قمرها مرحاً، شغف بأهلها الطيبين البسطاء، الذين وجدوا في وجهه نوراً وضياء، عشق بحرها ومنارتها وموانئ صياديها.

كان يشتم من شرفات بيوتها الحجرية رائحة البنفسج والياسمين، لتعود به الذاكرة إلى صيدا وزهر الليمون والبساتين. وعندما يأوي الى فراشه في المساء، يبعث إليها قبلة شوق في الهواء.

بادلته بيروت الحب والغرام، وحفرت صورته في قلبها، حتى صار ملاذها وقبلتها. كيف لا، وهو بانيها وباعث مجدها وعزتها؟ إلى أن إرتبط إسمه بوسطها وووري جسده الطاهر في ثراها.

ركب رفيق الحريري طائر الفينيق مسابقاً الزمان، قاصداً وطنه لبنان، حطّ في عاصمته بيروت، غير آبه للخطر أو ما يمكن أن يلحق به من ضرر، مخترقاً جدار الحذر، لأنه كان مصمماً على أن يطفئ النار المشتعلة، بحبات المطر.

نزل بيروته المحبوبة، فوجدها مندثرة، محطمة، مقطعة ومتهاوية. هاله المشهد: حروب تملأ الدروب، سحب من النيران والدخان، خراب ودمار كأنه زلزال أو إعصار.

لم يسمح لدموعه أن تنهار، على الرغم من أن الفجيعة تظلل كل بيت ودار. فهو جاء بلده لينفض عنه الغبار، ويطلق مسيرة الإنماء والإعمار بكل عزيمة وإصرار.

خاطب شعبه بصراحته المعهودة وإرادته المشهودة، قائلاً: “الإنماء والإعمار بالعمل لا بل بالأمل، فلا يكفي أن نؤمن بمستقبل وطننا، إذا أردتم لبنان الجديد، فإن الارادة هي نصف الطريق، فهيا إلى العمل بحزم وعزم”.

عندها صحت بيروت من يأسها، لما وجدت الأمير الرفيق يبدد التشاؤم بالتفاؤل، ويستبدل السواد بالرجاء، وينشر أريج الأحلام، وهو الحالم لوطنه وعاصمته بربيع دائم وشعاع ساطع، وأن يكون بالرخاء ناعم.

نفض عن بيروت آثار الخراب والدمار، وأعاد البناء والإنماء والإعمار. وجعلها مجدداً مبعثاً للعزة والإفتخار، محولاً حلمه إلى حقيقة تملأ الأنظار والأبصار.

فكان الرفيق لبيروت خير حامٍ، ناشراً فوق سمائها بشائر الأمان والسلام، مقرباً بين اللبنانيين، وداعياً للخير والوئام، نابذاً من قلوبهم الخلاف والفرقة والصدام، محققاً بينهم الوفاق والوحدة والإلتئام.

عندها، أضحى حلم رفيق الحريري حقيقة سحيقة، تملأ النظر والبصر، بعدما أخرج بيروت من الظلمات إلى النور،وخلّد إسمه بأحرف مذهبة مدى الأزمان والدهور.

كأنه أعجوبة العصر ومعجزة الدهر، سحر العقول وحوّل المستحيل الى معقول، وأثار الفضول، فإنتزع من القلوب والعقول كل التنويه والتقدير والاعجاب لدرجة الذهول.

إنه حقاً زمن رفيق الحريري… والتاريخ على مآثره خير شاهدِ، كلما رفعت الصلوات في الكنائس والمساجد.

فجأة… إغتيل حلم لبنان..

إنطفأ قمر بيروت، وتهاوت النجوم، وتوقف الزمان.

إحتشد الظلام وخيمت الأشجان والأحزان.

وحده رفيق الحريري، كان فرحاً مبتسماً، وضياء نجمه ساطع مشع.

على ثغره ترتسم إبتسامته السحرية، وتنبعث من وجهه خيوط التفاؤل الذهبية، يرمي على الجميع السلام والتحية. يطمئن الى شقيقيه شفيق وبهية، ويهاتف أولاده مطمئناً الى أحوالهم الشخصية، ويداعب شعر إبنته هند الصبية، ينظر بشغف إلى نازك معشوقته الأبدية، ويزرع على جبينها قبلة وردية، ويهديها باقة حب وقصيدة شعرية.

توجه إلى شاطئ بيروت وأمواجه الزرقاوية، نظر إلى الأفق البعيد بنظرات شعاعية، يركب سفينة بحرية، كأنه قرر أن يهاجر إلى المقلب الآخر من الكرة الأرضية.

في ذلك اليوم المشؤوم، إغتيل غدراً حلم بيروت ولبنان.

رأوا صورته تبدو لهم كفارس في كل مكان.

لم يحلو لهم رؤية مارد يشيع الإطمئنان.

ويملأ بحسناته وجليل مآثره مساحة الأوطان.

فأشعلوا جسده بلهيب النيران.

فنال الرفيق من ربه علياء الجنان.

وصعد إلى الفردوس الأعلى بكل أمان.

أريد للزمن أن تعود عقاربه الى الوراء، ليسحقوا ويحطموا أحلام الرفيق إلى أشلاء، ويحولوا الفرح وحب الحياة الى مجلس دائم للعزاء.

إنها الفجيعة، التي نزلت على بيروت كالبلاء.

عندما إنتزعوا عنها نسمة الخير وسلبوها الرجاء، وكأنه مكتوب عليها المحن والشقاء.

وأن تحتل مساحة قلوبنا الدموع والبكاء، عندما حرمونا لمسة الحنان ومتعة اللقاء.

يا من رحلت عنا في عيد الحب، طال الشوق والانتظار.

ليس أمامنا من خيار، إلا أن نعاهدك ونقسم بالواحد الجبار، أننا ومن أمام ضريحك العابق بأريج الأزهار، الذي تفوح منه روائح البخور والمسك والأعطار، والعامر بصلوات المخلصين وضراعتهم، ندعو لك الله بشفاعة المصطفى المختار، ليكون مقامك في الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، مع النبيين والصديقين والصالحين والشهداء الأبرار.

ها هو سليل قوم الأماجد بشير السعد.

أتانا مشرّفاً بالعزة والأمجاد.

غير آبه للغدر والإجرام والمكائد.

يكمل بأمانة وتفانٍ مسيرة الوالد، ليكون له التاريخ خير شاهد، كلما رفعت الصلوات في الكنائس والمساجد.

كلمات البحث
شارك المقال