“عطر” الحريرية

محمد شمس الدين

واحد من أكثر الأفلام التي لا تحظى بالتقدير الكافي هو “perfume”، حيث يصنع بطل الفيلم عطراً يجعل جميع الناس تقع في حبه، لدرجة أنهم يأكلونه في النهاية. المشهد نفسه كاد أن يتكرر اليوم في ذكرى اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، جمهور الحريرية تدفق إلى ضريحه، وكان بانتظار وريثه، الرئيس سعد الحريري، انتظار مليء بجوارح الاشتياق، هذا ما لاحظه من غطى فعاليات الذكرى، وعندما قرر الحريري النزول بين الجماهير، ارتجت الأرض بصيحات المحبين، وبدأ التسابق على الاقتراب منه، وهو المشهد نفسه في نهاية الفيلم، عندما تهافت الناس على لمس البطل، وشمه، ومحاولة أخذ قطعة منه، والحريري لبى دعوة الجماهير وحياها، يسلم على مؤيد من هنا، يلتقط صورة مع مؤيدة من هناك، والصيحات تتعالى، وربما كانت أعلاها صيحة جمهور طريق الجديدة “الله حريري طريق الجديدة”، وحصلت مشادات بين شبانها والقوى الأمنية التي كانت تحاول ضبط الدخول إلى الضريح، ولكنها في الوقت نفسه قدرت أن اندفاعهم هو عن وفاء وليس شغباً، ولذلك لم تتطور المشادات واقتصرت على بعض الصراخ.

عطر الحريرية سحر هذا الجمهور، الذي يتوق شوقاً للقاء رئيسه، وعلى الرغم من أن الجميع يريد أن تكون عودة الحريري دائمة إلى “بيت الوسط”، إلا أن الجمهور منقسم بشأن عودة تيار “المستقبل” إلى الحياة السياسية، فتسمع الأحاديث الجانبية والتصريحات، البعض يعتبر أن الحريري “ضيعانه” في المشهد السياسي اليوم، والبعض الآخر يريد تأجيل العودة إلى حين يتوسل عودته كل من حاول إقصاءه، فيما دعاة العودة في أسرع وقت يرون أن الحريري وحده يمكنه إنقاذ البلد مما هو فيه، ويقولون انهم كانوا أيام الحريرية يعيشون في نعيم، وهناك من هو غاضب ممن اعتبرهم غدروا بالرئيس الحريري، كون الخصم متوقع منه أن يهاجم ولكن الصديق ليس من المفترض به أن يغدر، وينتظر هؤلاء العودة إلى السياسة، كي يوضع الغدارون عند حدهم.

عطر الحريرية بالنسبة الى هذا الجمهور، أنها أتت عقب الحرب الأهلية، وبدأت إعادة الإعمار، والاستثمار في الانسان عبر المنح الدراسية، ومساعدة الفقراء، والانتعاش الاقتصادي. وغالبية الجمهور لا تعتبر أن الحريرية كاملة، بل هي تعلم أن هناك أخطاء حصلت، ولكن برأيها من يعمل كثيراً يخطئ كثيراً، ومن لا يعمل لا يخطئ ويكون ملكاً في التنظير، وعندما دخل المنظرون الحياة السياسية دمروا البلد بسبب فشلهم وفسادهم، ورعونتهم باللعب على خطوط التوازنات الاقليمية، التي لا يمكن للبلد أن يستمر من دون الحفاظ عليها. يرى هذا الجمهور في سعد الحريري الوارث الحقيقي للنهج الحريري، الذي يكره لعبة الدم، والردح الطائفي، ويستذكر قول الرئيس الشهيد “وقفنا العد”، كرد على كل من يتكلم بهواجس طائفية، وينبذ التقسيم والفدرلة، ويطالب بالطائف الذي كان أحد أركانه الرئيس رفيق الحريري.

لا شك في أن ذكرى 14 شباط تستذكر رجلاً استثنائياً، استطاع شبك علاقات وضعت لبنان في أعلى الورقة في طاولات المفاوضات، وليس مستغرباً أن يملك هذا الكم من الجمهور، الذي يجدد كل سنة وفاءه له. ولا شك في أن وريثه الرئيس سعد الحريري ظلمه الأقربون قبل الخصوم، وكل رجال الدولة يتمنون عودته في أقرب وقت إلى الحياة السياسية، لأن الذكرى تثبت كل سنة أنه الزعيم الأوحد فعلياً للطائفة السنية، وهذا البلد قائم على توازنات أي لعب فيها يكون ذا تأثير سيء على البلد، كما يشهد لبنان اليوم، والحريرية مهما كانت هناك من أخطاء حصلت في أيامها، يمكن الاعتماد عليها أنها لن تنحدر إلى الخطاب الطائفي المستشري اليوم في البلد، وسعد الحريري كما فيلم “perfume”، لا يحظى بالتقدير الكافي لجهوده، على الأقل في الحفاظ على السلم الأهلي، وما صومه عن التصريح السياسي اليوم إلا دليلاً على ذلك.

كلمات البحث
شارك المقال