رفيق الحريري… كم كان مشرقاً بالأوفياء المثقلين بالمعاناة

زياد سامي عيتاني

كم كان مشرقاً وزاهياً وباسماً طيف رفيق الحريري في الذكرى الـ ١٨ لاغتياله، على وجوه الناس الطيبين الصادقين والمخلصين، الذين توافدوا إلى ضريحه، ليهدوه حبهم الأبدي في عيد الحب، الذي إنتزعه المجرمون القتلى من أفئدتهم.

أتوا من كل المناطق، متعبين مرهقين من آلام وأوجاع معاناتهم وهمومهم ومصاعب أيامهم، أتوا مثقلين من إحباطهم ويأسهم، أتوا حاملين معهم باقات الوفاء والانتماء كأكاليل غارٍ، ممزوجة بعرق كدهم وكدحهم وعنائهم، ليمنحوها لروحه الطاهرة، مقرونة مع ثواب فاتحة الكتاب بقلوب صافية وخاشعة، وأعين دامعة.

كم كبر قلب رفيق الحريري بالناس الذين أحبهم بتفانٍ حتى الإستشهاد، على الرغم من هذا الحزن المفجع، الذي لا قعر له، على ما آل إليه لبنانه الحبيب وشعبه الطيب، في زمن الردة، حيث الإفقار والإذلال، والتدمير الممنهج للمنشآت والإنجازات.

رأى فيهم؛ بساتين الليمون، والحقول الخضراء، وشتلات التبغ، وأشجار الصنبور، وشاطئ البحر، وموجه الأزرق، ومراكب الصيادين، والباعة المتجولين، والطلاب المجتهدين، والشباب الطامحين وأحلام الواعدين.

وزادت فرحته؛ عندما شاهد الساحة خالية خاوية من المخادعين والمنافقين والخوانين الغادرين، الذين تسللوا إليها مرات ومرات، متسترين بريائهم وكذبهم، منتحلين صفة الوفاء، التي هي منهم براء، لأن تاريخهم الأسود حافلٌ بالجحود والخداع والعقوق.

لكن فرحته العارمة إمتزجت بغصة وحسرة في قلبه في تمام الساعة الواحدة إلا خمس دقائق (!) عندما حضرت عائلته الصغيرة: الشقيقة بهية والشقيق شفيق والابن سعد، دون سائر أفراد العائلة، التي لطالما جمعهم على الالفة والتكاتف والإخاء في حياته، ليكونوا قلباً واحداً عند مماته، معتصمين بحبل الله وتعاليمه، ومتعاضدين متماسكين على الفضيلة لإكمال مسيرة البر والخير والعطاء.

ومن رهبة الخشوع ومهابة التضرع ووقار الشهادة، نهض طيف رفيق الحريري طُهراً وصفاءً ملائكياً، نهض من ضريحه العابق بأريج الزهور وطيب البخور، نهض بروحه المتألقة وهامته الممشوقة، كغيمة بيضاء في فضاء سماء زرقاء صافية، مشى بخطواته الواثقة بين ناسه وسط الساحة، صافح الأحبة فَرِحاً مسروراً، سألهم عن أحوالهم، مازحهم كعادته، أنشد أناشيدهم، ولوح معهم عالياً براية الوطن، مودعاً.

وقبل أن يمضي عائداً الى الجَنَّة التي تُلَوِّح له، إعتلى برشاقة، عانق بلهفة سعده، قبّله من جبينه، ضمه بشوق الأبِ وحنانه إلى صدره الدافئ، مسح دمعه عن مقلتيه، داعب شعرَه، وقال له قبل أن يستودعه بصوت شجي:

سعد يا ولدي،

يا قرة عيني، وفلذة كبدي

‏‎يا نور عيني، وشمس عمري

أنت الهوى وأنت الأمل المتجددِ

سعد يا ولدي،

أنت من بعدي عزائي وعزتي وسندي

يا إشراقة المستقبل، ويا حلم الأماني للغدِ

سعد يا ولدي،

عانقتُ الشهادة واخترت حياة الخلدِ

لأنزع من دربك أشواك المكائد والنكدِ

سعد يا ولدي،

امضِ في طريقك وأنا لك معينٌ وخيرُ مؤيد

أؤرخ للزمن على رؤوس الأشهادِ

معتزاً فخوراً بك، أنك أنت السعدُ ولدي

فيا صفحات المجد بدماء قلبي دوني:

هذا هو عهد ولدي،

هذا هو زمن السعد

أخفى دمعته قبل المغادرة، وتغلب على حزنه العميق، وأعاد رسم البسمة على وجهه، سائلاً ربه الهداية والرشد وسواء السبيل، لكل من أضل الطريق (!) مستودعاً الله مجدداً لبنان الحبيب وشعبه الطيب، وداعياً لهما أن ينعما بالسعد والهناء.

كلمات البحث
شارك المقال