هل أدرك من دفع الحريري للعزوف أهمية عودته؟

زياد سامي عيتاني

ثمة أمر لافت ظهر بعفوية خلال إحياء الذكرى الـ 18 لاغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، تمثل في التأثر الشديد الذي بلغ حد البكاء لدى كل من عاش زمن رفيق الحريري، بحيث أن بكاء الكثيرين أمام ضريحه أو خلف الشاشات، يوازي بكاءهم يوم الاغتيال المزلزل!

هذه الأحاسيس الصادقة التي عبّر عنها الأوفياء والمخلصون للرئيس الشهيد، كانت ممزوجة بمشاعر الأسى والألم والاحباط، جراء ما آلت إليه الأوضاع من إنحدار وإنهيار، وكأن هذا التعبير العاطفي والوجداني، تحسر على إنجازات رفيق الحريري، الذي أعاد بناء لبنان وإزدهاره، وأعاده إلى الخارطة العربية والدولية، في وقت نشاهد بصمت مخزٍ ومشين إنهيار كل ما حققه للبنان بعد الحرب، وفقاً لمخطط منظم وخبيث لمحو كل إنجازاته العظيمة.

كذلك، فإن لسان حال هؤلاء الناس “ما أحوجنا في هذه المرحلة المأساوية الكارثية الى رفيق الحريري، الذي لن يتكرر”.

هذه المشهدية، تؤكد بما لا يقبل الشك، أن رفيق الحريري (المشروع والرؤية والدينامية والنهج) لا يزال حاجة وطنية ملحة وضرورية، خصوصاً في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ لبنان، المهدد كدولة ونظام ونموذج.

فالرئيس الشهيد لم يكن حالة سياسية – عائلية تقليدية، شبيهة بباقي البيوتات السياسية والزعامتية اللبنانية، كما لم يكن واحداً من قادة الأحزاب الميليشيوية، الذين أطاحوا بتلك الزعامات “الكلاسيكية”، تحت شعار القضاء على الاقطاع السياسي، مستفيدين من الحروب المتتالية، ليتحولوا بعد إتفاق الطائف إلى نسخة جديدة من الاقطاع القديم، بمسمى “أمراء الطوائف” المدافعين عن حقوقها (!) إنما كان رفيق الحريري ظاهرة إستثنائية غير مسبوقة في الحياة السياسية اللبنانية على الاطلاق؛ بحيث يكاد يكون الوحيد من كل الزعامات اللبنانية الذي أتى إلى الحكم وبحوزته مشروع وطني متكامل، عمل على تنفيذه لنقل لبنان من حالة الحرب إلى حالة السلم، وفقاً لما نص عليه “الطائف”.

لقد شرع الرئيس الشهيد منذ وصوله إلى الرئاسة الثالثة بديناميته وإندفاعيته، مسابقاً الوقت والزمن (من دون أن يتمكن أحد من اللحاق به) في إطلاق أكبر ورشة سياسية وإقتصادية ومالية وإعمارية وإنمائية، لاعادة بناء ما تهدم، وإعادة لبنان إلى دوره الريادي في المنطقة على الصعد كافة، وإستعادة ثقة العالم به، موظفاً كل طاقاته وخبراته وعلاقاته وما يتمتع به من ثقة وتقدير عربي وعالمي، لتحقيق مشروعه الوطني المتكامل، بهدف إعادة ترسيخ السلم الأهلي والوحدة الوطنية والاستقرار الاجتماعي والنهوض الاقتصادي، من خلال محو كل آثار الحرب، ومعاودة البناء على أسس ومرتكزات حديثة ومتطورة، تواكب حركة العصر، وإستعادة لبنان تصنيفه كواحد من البلدان المتقدمة في المنطقة.

إلا أن الأمانة التاريخية وعلى سبيل الانصاف، تقتضي بكل جرأة أدبية وشجاعة أخلاقية، الاقرار بموضوعية أن تنفيذ مشروع عملاق بهذا الحجم خلال فترة زمنية قياسية، وسط غابة “وحوش السياسة” المفترسين، تكتنفه أخطاء وشوائب من مختلف الأحجام، ويترافق ذلك مع هدر وفساد وسمسرات ورشاوى وتلزيمات بالتراضي (وما هو أكثر من ذلك)… والتي كانت عرضة للنقد البناء والهادف من سياسيين مشهود لهم بالنزاهة والمصداقية، سواء من داخل المجلس النيابي أو من خارجه.

وللإنصاف، فإن الرئيس الشهيد لم يكن قادراً على وقفها أو منعها، لأنه في حال أقدم على ذلك، ستوضع أمامه المعوقات والصعوبات والعراقيل المفتعلة، إما للإبتزاز السياسي والمالي، أو منعاً لتعاظم دوره المحلي والاقليمي والدولي.

وعلى الرغم من ذلك، تمكن بإصراره وصلابته، وحنكته السياسية والتفاوضية والحوارية مع الفرقاء اللبنانيين ومع الراعي الاقليمي، من تنفيذ أجزاء (بالقدر الذي سمح به) من مشروعه الطموح والواعد، وبالتالي تمكن من نقل لبنان من مرحلة إلى مرحلة، وإعادته إلى الخارطة العالمية، بسرعة قياسية، أدهشت العالم وأذهلته، وجعلته قبلة للاستثمار بكل أوجهه، ومحط أنظار رجال الأعمال من مختلف المجالات والاختصاصات ومن دول العالم على اختلافها.

هنا لا بد من التذكر والتذكير بتوصيف الرئيس نبيه بري للشهيد بـ “الدولة المتحركة”، والذي قال فيه الشيخ محمد بن راشد: “انني أنفذ كل الأحلام التي كانت تراوده ومنع من تحقيقها”.

في الذكرى الـ 18 لاغتيال الوطن باغتيال رفيق الحريري (الرجل والمشروع)؛ وإزاء المستقبل الغامض والبالغ الخطورة للبنان الدولة والكيان، من جراء التداعيات الكارثية “الجهنمية” للتطورات وللتحولات الجذرية في المنطقة، ووسط هذا الانهيار الشامل الذي يضرب كل مقومات ومكونات الدولة والشعب (!) المطلوب العودة إلى الجذور والينبوع، العودة إلى عناوين وتوجهات الأسس والمرتكزات الصلبة لمشروع الرئيس الشهيد، الذي لا يزال حاجة وطنية ملحة، ومنطلقاً أساسياً لإنقاذ لبنان قبل وقعه الأخير في الدرك الأسفل من الانهيار الكامل.

وهنا ينبغي على جميع الذين جهدوا وراهنوا في الداخل والخارج، على إستحداث زعامات بديلة عن الرئيس سعد رفيق الحريري، المؤتمن وطنياً وعملياً وموضوعياً وشعبياً (من خلال محطات عديدة، كان آخرها في ذكرى إغتيال والده) على متابعة مسيرة والده، أن يستيقظوا من أوهامهم العبثية، ورهاناتهم الخاطئة والقاتلة، بعدما حصدوا خيبات الأمل المتكررة، وأن يستعيدوا البورصة التي أضاعوها، وذلك من خلال إمتلاك جرأة الإعتراف والإقرار بأن كل محاولاتهم التي باءت بالفشل، كانت لها تداعيات في منتهى السلبية على الصعيد الوطني العام وعلى صعيد ما يمثل سعد الحريري سياسياً وشعبياً، مما تسبب بخلل فاضح وغير مسبوق في توازنات المعادلة الوطنية الداخلية.

الخلاصة، أن الوطن بأسره، وليس سعد الحريري وتياره السياسي وجمهوره وحسب، يحتاج إلى إعادة إنتاج المشروع الوطني للرئيس الشهيد رفيق الحريري، بكل أبعاده ومندرجاته، علّه يشكل الفرصة الأخيرة لإنقاذ لبنانه الحبيب وشعبه الطيب من الموت المحتم، وهذا يحتاج إلى الأوفياء الخلص الذين آمنوا به، وليس من ركب موجة “الحريرية السياسية”.

فهل يدرك من دفع سعد الحريري من قوى محلية وجهات خارجية، إلى إتخاذ قراره بتعليق العمل السياسي، مدى الحاجة الوطنية الى عودته لاعباً أساسياً على المسرح السياسي، وأن تكون عودته مقرونة بمشروع إنقاذي، شبيه بمشروع الرئيس الشهيد؟ وبالتالي هل يتخلون عن مكابرتهم وأحقادهم الشخصية وغرورهم، ويوفروا الظروف الموضوعية لهذه العودة، ليس لاحراقه سياسياً، إنما لإنقاذ لبنان من الحريق الذي سيلتهمه؟

شارك المقال