مَن ينقذ الاقتصاد يحكم البلد

عبدالوهاب بدرخان

الشعب اللبناني قال كلمته: “كلّن_يعني_كلّن”… وهذه لم تكن شعاراً فارغاً، بل اتهاماً واضحاً استوجب أن يبحث أي واحدٍ من الـ “كلّن” في طائفته وفي اصطفافاته عن سبيل للتنكّر بـ “براءة ذمّة” تبرّر استمراره على قيد الوجود السياسي، لكن من أجل ماذا، فإفلاس البلد والدولة انكشف مالياً وسياسياً وأخلاقياً. أمكن بعدئذ رؤية مَن حاولوا التمايز بأساليب شتّى لم يعد مهمّاً أن تكون أقنعت أو لم تُقنع. المهم أن هناك بين الـ “كلّن”، ومن غير الأبرياء، مَن أظهروا أنهم “تعلّموا” و”يتعلّمون” شيئاً من الأزمة الشاملة، أما ما يحاولون طرحه وطبخه فيبقى على محك الاختبار، وسيتبيّن سريعاً ما إذا كانوا يحتالون لتمرير ما سبق من فساد آملين باستدراج ما سيأتي من فرص لاستئناف الفساد.

أهمّ ما يجب أن يكونوا تعلّموه أن الأولوية ليست لاستنقاذهم سياسياً بل لإنقاذ البلد. فمن بين بلدان العالم كافة يكاد لبنان ينفرد بأن فيروس “كورونا” حلّ فيه ليفهم الجميع أن البلد مريض، لأنهم رغم الكوارث لم يشأوا أن يفهموا، بل ان الطغمة الحاكمة لم تعترف بعد بالانهيار الزاحف، الحاصل فعلاً. لا، ليس استعصاء الحكومة ما يدلّ الى ذلك وإنما انفضاح الخدع التي يستنبطها المعطّلون، وهؤلاء هم الذين لم يتعلّموا ولا يريدون أن يتعلّموا شيئاً من الأزمة، لأنهم خسروا ويعرفون أنهم خسروا ولا يريدون أن يعترفوا، أكانوا “حزب الله”/ صانع الرئيس، أم الرئيس/ أداة “الحزب”، أم المراهنين على هؤلاء الذين ضُبطوا متلبّسين بالإثم التاريخي العظيم: تهديد وجود الكيان اللبناني.

هذه لحظة حاسمة ومفصلية في مسيرة الوطن الصغير، إذ يأمل خاطفوه المتواطئون عليه أن يفلتوا بالرهينة ليتقاسموا أوصالها المقطّعة. لا السلاح غير الشرعي الموظّف ايرانياً سيصنع لـ “حزب الله” دولة تناسب حجمه وقوّته، ولا احتجازه “التيار العوني” المتداعي سيصنع أماناً لأحد، للمسيحيين أو المسلمين بمذاهبهم كافة، ولا إفقار اللبنانيين وإذلالهم والعبث بحياتهم وتعايشهم ومعاناتهم سيصنع مستقبلاً للمتآمرين على البلد أيّاً كانوا، لأن “تعاميهم بات جريمة عدم مساعدة بلد في خطر” (جان إيف لودريان).

هذا بلدٌ استطاع رغم موارده الضئيلة أن ينجح ويكون حيوياً بفضل جهود أبنائه، لكن خصوصاً بفضل البُعدين العربي والدولي اللذين صقلا مكانته ونموذجه وتمايزه في المنطقة. الكل تدخّل بشؤونه وتداخل بمكوّناته وقبل “حياده” (الجامعة العربية ذكّرت أخيراً بأنها شاهدة عليه)، ووحدهما النظامان السوري والإيراني تلاعبا بهذا الحياد وأفسداه، ليس فقط بعزل لبنان عربياً ودولياً، بل أيضاً بجعل دولته منبوذة وسياسييه تمساحيين يستحقّون “العقوبات” على ما يرتكبونه في حق شعبهم.

في اطلالته التلفزيونية الأخيرة، البائسة، أراد رئيس الجمهورية أن يبلغ المجتمع الدولي بأن أي عقوبات جديدة ستعني نهاية المبادرة الفرنسية، كأنه ممسك بمصير فرنسا، كأن المبادرة معدّة لبلد آخر أو لخدمة خصومه، لكن رسالته أكّدت المؤكّد منذ زمن: هذا رئيس ميئوسٌ منه. قبله كان الأمين العام لـ “حزب الله” أحاط الجميع علماً بأن أي حكومة مقبلة، خصوصاً إذا تألفت من “اختصاصيين مستقلّين غير حزبيين”، لن تُمنح صلاحيات استثنائية، ولن تحظى اصلاحاتها بالتأييد برغم استثنائية مهمّتها. هذه عودة الى جدالات الإصلاح عام 2019 كما حاولته الحكومة السابقة تلبية لمتطلّبات مشروع “سيدر”، وكما أفشله “الحزب” وحلفاؤه، بل هذه بالأحرى ذروة الانكار الذي يعيشه لبنان وقمة الاستهتار بالواقع الحضيضيّ الذي بلغه.

لم يعد “الحزب” وحليفه “العوني” يخفيان خشيتهما من خسارة القبضة التي يطبقانها على لبنان، وخسارة العزلة التي فرضاها عليه، فمن ينقذ الاقتصاد يحكم البلد عملياً. لذلك فهما لا يسعيان الى انقاذ لبنان، لا بالمبادرة التي أصبحت فرنسية – أوروبية – أميركية، ولا ببرامج يُتفق عليه مع صندوق النقد الدولي، بل يريان إجبار لبنان على انتظار مساومات إيران لرفع العقوبات عنها، علّها تصبح عندئذٍ أكثر قدرة على التحكّم بأي مبادرات دولية سواء للبنان أو حتى لسوريا.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً