أميركا للعرب: “التطبيع” لن يمر!

أنطوني جعجع

هل يبدو التواصل السعودي – الايراني والتطبيع العربي – السوري قابلاً للسير نحو انتاج حلول جذرية سريعة أو بناء “شرق أوسط جديد”، انطلاقاً من أجواء الارتياح والتفاؤل التي تطلع من هنا وهناك؟

الواقع أن ما تكدس في المنطقة وتراكم على مدى السنوات الأربعين الماضية، تجذر في النفوس والخلفيات وبلغ حداً لم يعد مرتبطاً بالنيات والافطارات المتبادلة أكثر منه بالممارسات والمصداقيات، ولم يعد أمراً مرتبطاً بفريقين متخاصمين أو جارين متباعدين بقدر ما هو مرتبط بشبكة من المصالح والاستراتيجيات المحلية والاقليمية والدولية ولو بنسب متفاوتة.

والواقع أيضاً، أن ما جرى بين الرياض وطهران لم يرضِ واشنطن وصبّ في مصلحة موسكو وبكين، وأن ما جرى بين بعض العرب وسوريا لم يرضِ تل أبيب، وصبّ في مصلحة الرئيس بشار الأسد وقوى الممانعة، اضافة الى أنه لم يرضِ المعارضة الايرانية المنتفضة في شوارع ايران منذ خمسة أشهر، ولا المعارضة السورية التي تتلمس ما يشبه عملية بيع وشراء على طاولة النظام الحاكم في دمشق، ولا المعارضة اللبنانية التي تتخوف من تسويات على حسابها.

وتوحي أجواء الادارة الأميركية بأن المبادرات الأخيرة في الشرق الأوسط، تركت واشنطن وحيدة في مواجهة طهران في مكان وموسكو في مكان آخر، مشيرة الى أن شكلاً من أشكال الحرب في أوكرانيا انتقل الى المنطقة، ووضع الجنود الأميركيين في سوريا في مرمى الميليشيات الايرانية التي تعمل بتنسيق لصيق مع القوات الروسية التي تقوم بعمليات استطلاع فوق القواعد الأميركية التي تعرضت لهجمات صاروخية مباشرة.

وترى الأجواء نفسها أن موسكو استغلت انحسار العداء بين ايران والسعودية وبين سوريا وبعض العرب، للضغط على القوات الأميركية المنتشرة في المنطقة، في محاولة لتحقيق “انتصار استراتيجي” يواكب انجازاتها العسكرية الأخيرة في أوكرانيا، وفي محاولة لالهاء الأميركيين الذين يحاولون من خلال كييف استنزاف موسكو والسيطرة على القرار العسكري في أوروبا.

ولا يبدو في حسابات المراقبين، أن أميركا في وارد “ابتلاع” ما تغير في الشرق الأوسط أو التفرج على روسيا والصين وهما تتمددان إقليمياً، وعلى ايران وهي تنجح في شراء الوقت، في منطقة حساسة كانت حكراً على العالم الغربي منذ عقود طويلة، ملوحين بأن واشنطن ربما تخطط لأمر ما يعيد خلط الأوراق بأي ثمن.

ويرى هؤلاء أن التعزيزات الأميركية التي وصلت الى سوريا، لا تهدف الى مواجهة الهجمات الايرانية فقط بقدر ما تهدف الى إثبات الوجود وتحذير من يعنيه الأمر بأن الهيبة الأميركية لم تنكسر، وأن ما يجري ليس سوى لعب بالنار قد لا ينتهي دائماً بمجرد تبادل الضربات والرسائل.

لكن أكثر ما يهدد عمليات التطبيع، يتمثل في الهجمات الاسرائيلية المتلاحقة على أهداف تابعة لـ “الحرس الثوري” و”حزب الله” في سوريا والاتجاه الاسرائيلي للاغارة على منشآت نووية وصاروخية ايرانية تلبية لهدفين أساسيين هما أولاً الهدف الأمني، والثاني احتواء الضغط الشعبي الذي يهدد الحكومة اليمينية بالسقوط، ويعكر العلاقات بين تل أبيب وواشنطن التي ترى في ممارسات رئيس الوزراء الاسرائيلي ما يضعف ويقوّض أهم حليف استراتيجي لها في منطقة الشرق الأوسط وربما في آسيا كلها.

ويذهب مصدر عسكري غربي بعيداً الى حد القول ان أميركا لن تسهل في المطلق أمور المصالحة بين الرياض وطهران ما لم يكن بين بنودها ما يبقي على زخم العقوبات المفروصة على طهران وما يوقف برنامجها النووي ويحجم أو يحد من سطوة الميليشيات الايرانية في المنطقة وخلاياها النائمة في العالم، ولن تبارك التطبيع بين العرب وسوريا ما دام بشار الأسد يغطي النفوذين الروسي والايراني في بلاده، وما دامت المعارضة السورية مغيّبة عن أي تسوية نهائية في البلاد.

والواقع أن المشاكسة الأميركية – الاسرائيلية قد بدأت فعلاً من خلال تحريك جبهة جديدة بين ايران وأذربيجان المدعومة من اسرائيل، وبين أذربيجان وأرمينيا المدعومة من ايران، وسط أجواء تفيد بأن أميركا واسرائيل لن تتوانيا عن أي أمر يمكن أن يخرّب الاستراتيجية الروسية والصينية في المنطقة وأن يجر ايران الى معارك جانبية رداً على تورطها في حرب أوكرانيا سواء مع جيرانها أو مع الدولة العبرية.

والواقع أيضاً، أن الحملة الأميركية ضد النظام السوري، لم تكن من قبيل المصادفة بل لتذكير العرب بأن المشكلة مع الأسد ليست مشكلة مخدرات تعبر الحدود نحو الخليج وحسب، بل مشكلة خلايا يدربها “حزب الله” وتعبر الحدود نحو غزة ومنها الى قلب اسرائيل ونحو اليمن ومنها نحو الممرات البحرية في المنطقة.

ويرى مصدر سياسي أميركي أن الاجراءات التي طاولت الحلقة الضيقة لعائلة الأسد اضافة الى لبنانيين مقربين من “حزب الله” في مجال تهربب المخدرات، ليست الا ملفاً واحداً من سلسلة ملفات تبدأ بالتحالف السوري – الايراني – الروسي ولا تنتهي بالقواعد الايرانية التي يديرها “حزب الله” على الحدود مع اسرائيل.

والواضح أن السعودية التي تتقن تدوير الزوايا أدركت أن التقارب مع ايران وسوريا لا يعني الابتعاد عن أميركا، وهو ما برز أولاً في ابطاء تطبيعها الكامل مع دمشق، وثانياً في رفضها السير بأي مرشح رئاسي لبناني لا توافق عليه واشنطن، وثالثاً في حرص الرياض على الاضطلاع بأدوار مدروسة مقدمةً، في الموضوع الرئاسي اللبناني، شرط المواصفات على شرط الأسماء، ما يعني حتى الآن رفض سليمان فرنجية المرفوض أميركياً من دون تسمية سواه.

وأكثر من ذلك، تكشف مصادر المتابعبن لما يجري في المنطقة، أن الأميركيين باتوا الآن أكثر تمسكاً بالورقة اللبنانية خلافاً لما يروّج بعض المحللين، مشيرة الى أن واشنطن لن تسمح بوصول رئيس للجمهورية اللبنانية تختاره ايران وتباركه السعودية من دون تنسيق مع الأميركيين، ولن تسمح بتكرار تجربة الرئيس ميشال عون.

وترى المصادر عينها أن استمرار الفراغ الرئاسي في لبنان يعود الى انعدام التوافق الايراني – السعودي على رئيس مقبول من واشنطن، مؤكدة أن الأميركيين لن “يقبضوا” أي تعهدات أو التزامات قد تقدمها ايران على الطريق الى بعبدا، ولن ينسحبوا بالتالي من لبنان كما حدث بعد تفجبر مقر المارينز في العام ١٩٨٣، وأن ما قالته السفيرة دوروثي شيا من “أننا هنا لنبقى” لم يكن كلاماً هوائياً لا مصداقية فيه.

ويذهب المصدر بعيداً الى حد القول إن لبنان الذي كان حتى الأمس القريب حلقة ثانوية، بات في الاستراتيجية الأميركية بعد ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل، الحلقة التي يمكن أن تأخذ هذا البلد الصغير اما الى الذوبان في فم حوت آخر وهذا خط أحمر، واما الى بلد تديره سلطة شفافة وسيادية وأكثر حيادية في ما يتعلق بالملفات الساخنة والمتفجرة، وهذا أمر مطلوب، مشيراً الى أن واشنطن والعالم الغربي معاً لن يسمحا بتغييب الأقليات السنية والمسيحية والدرزية في لبنان لمصلحة الشيعية السياسية والعسكرية الموالية للجمهورية الاسلامية الايرانية والنظام الحاكم في سوريا.

ويتابع: “على كل الأطراف في المنطقة أن تعلم أن الحق في العيش في سلام يجب أن يشمل الجميع، اذ لا يمكن أن يهنأ الخليج على حدود اليمن ولا يهنأ طرف آخر على حدوده، والمقصود هنا خصوصاً الكيان الاسرائيلي الذي رأى أن تطبيع علاقاته مع بعض العرب كان مجرد هدنة بديهية في حرب لم تندلع، ومجرد سلام بين خصمين لا يتقاتلان، ولم يبعد حزب الله وحماس عن حدوده ولم يسحب صواعق الطموحات النووية في ايران”.

ويختم: لقد باتت الولايات المتحدة واسرائيل في الزاوية الضيقة، والمخرج الوحيد المتاح الآن على الأقل، قد يكون عملاً عسكرياً في مكان ما، ربما في لبنان أو سوريا وربما في ايران نفسها، فهل يعطيهما “حزب الله” الذريعة التي تحتاجان اليها أم تعملان لايجاد واحدة كتلك التي سبقت حرب العام ١٩٨٢؟

حتى الآن، “حزب الله” يراقب ما يجري في الشارع الاسرائيلي ويعرف دقة ما يجري هناك، ويعرف أن أي استفزاز من قبله سيقود حتماً الى الحرب، فهل يكتفي بالتفرج أم يكرر “هفوة تموز” من خلال مسيرة تنطلق من هنا وهناك، ويعطي نتنياهو ما يحتاج اليه لتلافي السقوط تحت أقدام مواطنيه؟

شارك المقال