حرب العاشر من رمضان (١): تحطيم أسطورة “الجيش الذي لا يقهر”

زياد سامي عيتاني

حلّت ذكرى حرب العاشر من رمضان 1393 هجرية، 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1973 ميلادية، التي هي الحرب الخامسة بين العرب واسرائيل (حرب فلسطين عام 1948م، حرب السويس عام 1956م، حرب الأيام الستة عام 1967م وحرب الاستنزاف عام 1967)، وانتصر فيها الجيش المصري على العدو الاسرائيلي، واستطاع عبور قناة السويس، بعدما أخذ زمام المبادرة، كهدف أساس لاستعادة الأراضي التي خسرتها مصر إبّان حرب الـ 1967، ليغسل بها الهزيمة، بعد ست سنوات فقط، بحيث أذاق فيها اسرائيل هزائم متتالية، لا سيما “حرب الاستنزاف” أطول الحروب العسكرية الحديثة، (إستمرت أكثر من ألف يوم، إستنزف فيها الجيش المصري اسرائيل)، لتكون “البروفة” الحقيقية للجيش المصري، والتي جعلته يحقّق المفاجأة بعبوره قناة السويس وإجتياحه خط “بارليف”، الذي كان يعتقد أنّ من المستحيل تدميره على الاطلاق، ويرفع العلم المصري ليرفرف عالياً في سيناء، ويحقّق الانتصار الخالد ويحطم أسطورة “الجيش الذى لا يقهر”، التي رفعها عقب هزيمة الـ 1967.

التمهيد للعبور بإعادة بناء الجيش:

بعد الهزيمة، عيّن الرئيس جمال عبد الناصر الفريق محمد فوزي أول قائد للجيش، وعبد المنعم رياض رئيساً لهيئة أركان القوات المسلحة، عقب الاطاحة بعبد الحكيم عامر.

وبُذلت جهود مضنية في عملية إعادة البناء وتغيير الثقافة العسكرية المصرية، حتى وصلت إلى مستوى لائق تجلى خلال حرب الـ 1973. فقد جرى سريعاً تنصيب قادة جدد لكل الأفرع الرئيسة للقوات المسلحة، الذين كُلّفوا جميعاً بإعادة تنظيم شاملة للجيش المصري من الداخل.

ولأول مرة في تاريخ العسكرية المصرية، تمّ توحيد قيادة القوات متمثلة في إدارة واحدة يقودها القائد العام ورئيس الأركان معاً، بحيث وضعا الخطة 200، لإعادة بناء القوات المسلحة. لم تتوقف هذه الخطة على تجنيد أكبر قدرٍ من الأفراد وحيازة أطنان من الأسلحة، وإنما تبنّت فلسفة تقوم على رفع كفاءة الجندي المصري إلى أكبر درجة ممكنة.

ولهذا أجري تغيير جوهري في فلسفة التجنيد المصرية، فبعدما كانت لا تهتم بضمِّ حملة المؤهلات العليا، بودر إلى التوسّع في تجنيدهم لترفع نسبتهم في الجيش من 7% قبل النكسة إلى 93% بعدها، كما أنشئت المعاهد التي اهتمت برفع كفاءة الجنود وتسريع عملية إتقانهم لاستخدام أسلحتهم.

علاوة على إقامة 4 معاهد لتدريب الطيارين، رفعت قُدرة الجيش المصري على تخريج 300 – 400 طيار سنوياً، بدلاً من 50 طياراً قبل النكسة.

كانت قدرة القوات المسلحة على استيعاب استخدام الأسلحة الحديثة في وقت قصير، دعوة حقيقية للإتحاد السوفياتي للإستجابة إلى المزيد من طلبات التسليح الضخمة التي كانت القيادة المصرية تُسارع في طلبها.

وكخطوة لتلافي أخطاء المشير عامر القاتلة في عدم الاهتمام بتدريب القوات المسلحة، أخطرت قادة الوحدات العسكرية أن تدريب جنودهم هو واجبهم الأول في وحداتهم، ويجب تقديمه على أيّ مهمة أخرى.

كذلك، ملئت على الفور كل القيادات العسكرية الفارغة بضباط يثق بكفاءتهم كلٌّ من فوزي ورياض، ليضمنا سيطرتهما السريعة على وحدات القوات المسلحة كافة، كما أمرا بترميم ممرات المطارات التي تعرضت للقصف الاسرائيلي، حتى تكون جاهزة لاستقبال حمولات الأسلحة الضخمة التي أبدى الاتحاد السوفياتي إستعداده لارسالها إلى مصر.

في موازاة ذلك، وضعت الخطة 200، التي بدأت التشكيلات المصرية بالتدرّب عليها، في أماكن تقع غرب القاهرة، وتُشبه في تضاريسها منطقة قناة السويس وسيناء.

ومن أجل ضمان إستيعاب الوحدات كافة لعناصر الخطة، جرى تكثيف المشاريع القتالية المشتركة بين مختلف الأسلحة، فأصبحت تُجرى 400 مرة سنوياً لكلّ فرقة بعدما كانت تُقام 80 مرة فقط على مستوى الكتيبة قبل 1967.

وبلغ إتقان الوحدات المصرية لخطة العبور درجة أنّ الجنود كانوا يجرون تدريباتهم معصوبي الأعين.

ولاحقاً قرّرت القيادة المصرية إكساب أفرادها خبرة واقعية عن قواعد الاشتباك مع اسرائيل، فأصدرت تعليماتها بتصعيد هجماتها الميدانية وروّجت بينهم شعار “إقتل الاسرائيلي أينما وُجِد”، ورُصدت مكافأة لكلّ جندي مصري يقتل جندياً إسرائيلياً.

سريعاً بدأت الاشتباكات مع اسرائيل، ففي تشرين الأول 1967 نجحت 3 زوارق مصرية في إغراق المدمرة “إيلات”، أكبر قطعة بحرية في الأسطول الاسرائيلي، فردّت إسرائيل بمحاولة لتدمير السد العالي وقناطر نجع حمادي، وهو ما نبّه القيادة المصرية إلى ضرورة بناء شبكة إنذار جوي كاملة على حدود مصر كافة.

كما تمّ إنشاء ما عُرف بـ”منظمات الدفاع الشعبي”، وهي مجموعات من المدنيين زوّدت بالأسلحة والذخيرة لردع أيّ محاولة إختراق إسرائيلية للعُمق المصري.

وكانت سنة 1969، هي سنة السعد على العسكرية المصرية، بعدما نجحت فرقة عسكرية في أسر الضابط دان أفيدان، وكان أول ضابط تأسره مصر منذ العام 1948. ولم ينتهِ هذا العام إلا بتحقيق قوة عسكرية إنتصاراً رمزياً مهماً، بعدما احتلّت موقعاً أمنياً إسرائيلياً، ورفعت فوقه العلم المصري.

كل هذه العمليات، كانت مؤشراً على أنّ عملية إعادة البناء تسير في الطريق الصحيح.

لماذا إختيار العاشر من رمضان؟:

لم يأتِ اختيار يوم العاشر من رمضان ليكون يوم المعركة المجيدة صدفة، فقد كان هو الوقت المناسب فى الجبهة السورية، لا سيما أنّه في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر يبدأ الجليد بالتساقط على هضبة الجولان السورية، وحينها ستكون حالة الطقس غير مناسبة للحرب في الجبهة السورية، علاوة على أنّ شهر تشرين الأول، كان متزامناً مع شهر رمضان وقتها، وهي مناسبة إسلامية لا يتوقّع فيها حدوث عملية هجوم شاملة.

وانتهت حسابات القادة العسكريين حينذاك إلى أن مدة تنفيذ العملية العسكرية المصرية لعبور القناة، تستغرق 8 ساعات، وأول رد فعل لاسرائيل سيكون بعد 6 ساعات وفقاً لقواعد إنعقاد مجلس وزرائها واتخاذ قرار الحرب، ومن ثمّ يكون التوقيت الزمني المناسب لساعة الصفر بين 12 ظهراً إلى 2 بعد الظهر، بحيث تنتهي العملية العسكرية المصرية مع نهاية اليوم، وتعجز اسرائيل عن الرد لحلول الظلام، وتكون مصر أمام نجاح حقيقي على أرض المعركة.

وتمّ اختيار توقيت الساعة 2 بعد الظهر ليكون ساعة الصفر لأنّه علمياً لا يصح بدء المعركة والشمس أمام الجنود فستكون عائقاً كبيراً، والأفضل أن تتمّ العملية، عندما تتعامد أشعة الشمس على الرؤوس وهو ما كان، وبالفعل كانت ساعة الحسم الساعة 2 يوم 6 أكتوبر 1973.

وكان اختيار هذا اليوم الموافق السبت، الذي يطلق عليه اليهود بالعبرية إسم “يوم كيبور”، أيّ الغفران، أحد عناصر المفاجأة التي شلّت حركة إسرائيل في الأيام الأولى للحرب.

مسار عبور القناة:

قام الجيش المصري في العاشر من رمضان، بعبور خط قناة السويس، لتبدأ موجات منه تعبر تدريجياً، وذلك في منظومة عمل أعدّت بصورة متقنة للغاية، فاجأت الجميع حينها، بحيث أنّه في تمام الساعة الثانية بعد الظهر، نفذت أكثر من 200 طائرة حربية مصرية ضربة جوية على الأهداف الاسرائيلية في الضفة الشرقية للقناة، وعبرت المقاتلات الحربية المصرية وعلى ارتفاعات منخفضة لتفادي الرادارات الاسرائيلية، واستهدفت المطارات ومراكز قيادة اسرائيل، ومحطات الرادار والاعاقة الإلكترونية، وبطاريات الدفاع الجوي وتجمعات الأفراد والمدرعات والدبابات والمدفعية والنقاط الحصينة في خط “بارليف” ومصاف البترول ومخازن الذخيرة.

وبدأت المدفعية المصرية، بعد عبور الطائرات بخمس دقائق بقصف التحصينات والأهداف الاسرائيلية الواقعة شرق القناة، وبصورة مكثّفة تحضيراً لعبور المشاة، فيما تسلّلت عناصر سلاح المهندسين والصاعقة إلى الشاطئ الشرقي للقناة لإغلاق الأنابيب التي تنقل السائل المشتعل إلى سطح القناة.

وفي الساعة الثانية والثلث تقريباً، توقفت المدفعية ذات خط المرور العالي عن قصف النسق الأمامي لخط “بارليف”، ونقلت نيرانها إلى العمق، حيث مواقع النسق الثاني، وقامت المدفعية ذات خط المرور المسطح بالضرب المباشر على مواقع خط “بارليف” لتأمين عبور المشاة من نيرانها، بعدها عبر القناة 2000 ضابط و30 ألف جندي من خمس فرق مشاة، وإحتفظوا بخمسة رؤوس جسور، وإستمر سلاح المهندسين في فتح الثغرات في الساتر الترابي، لإتمام مرور الدبابات والمركبات البرية.

لقد إستطاع الجندي المصري الذي عبر أصعب مانع مائي في التاريخ، وهو يحمل على ظهره معدات وزنها 100 كلغ، ويحطم خط “بارليف” المنيع وهو صائم مردداً هتاف “الله أكبر”، أن يكتب ببسالة، تاريخاً جديداً مجيداً لمصر وللأمة العربية، تفخر به الأجيال المتعاقبة.

إقرأ الجزء الثاني: حرب العاشر من رمضان (2): استخدام الملك فيصل سلاح النفط جزء من الانتصار

شارك المقال