حرب العاشر من رمضان (3): الغطرسة وفشل “الموساد” مصدر هزيمة إسرائيل

زياد سامي عيتاني

إقرأ الجزء الأول: حرب العاشر من رمضان (١): تحطيم أسطورة “الجيش الذي لا يقهر”

إقرأ الجزء الثاني: حرب العاشر من رمضان (2): استخدام الملك فيصل سلاح النفط جزء من الانتصار

في صباح يوم الهجوم المصري – السوري المنسق على إسرائيل خلال حرب العاشر من رمضان، إنقلبت التقويمات الأميركية من إفتراض أن الحرب لم تكن في الأفق إلى محاولات محمومة لمنع سوريا ومصر من مهاجمة الدولة العبرية، التي تم تحذيرها من أي ضربة إستباقية.

فمن بين عشرات الآلاف من وثائق وكالة المخابرات المركزية التي كشف عنها، يمكن معرفة تقويم المخابرات الأميركية، في ما يتعلق بإمكان نشوب حرب بين إسرائيل والعرب في العام 1973، وكيف تصرف وزير الخارجية الأميركي آنذاك هنري كيسنجر، عندما تلقى المعلومات بأن مصر وسوريا كانتا تنويان بدء الحرب “يوم الغفران”.

في الاحاطة الاستخباراتية اليومية المقدمة إلى الرئيس الأميركي آنذاك، ريتشارد نيكسون، ورد أن “الاسرائيليين والعرب أصبحوا قلقين بصورة متزايدة بشأن الأنشطة العسكرية لخصومهما، لكن لا أحد من الجانبين يبدو عازماً على بدء الأعمال العسكرية”.

وفقاً للأميركيين، لم تكن حكومة رئيسة الوزراء الإسرائيلية آنذاك غولدا مائير، قلقة للغاية من إحتمال وقوع هجوم وشيك، بحيث كتبت في اليوم السابق للحرب: “ان إسرائيل رأت أن مناورات المصريين عادية، وأن سوريا في وضع دفاعي”. واعتبرت أن المخاوف السورية يمكن أن تؤدي إلى إنتشار عسكري، ما يتسبب في رد إسرائيلي يستمر في النمو ويتضخم ويتحول إلى حرب لا يريدها أحد.

ومع ذلك، في اليوم التالي، تلقت الولايات المتحدة معلومات محدثة غيّرت تقويمها تماماً، تفيد بأن “مصر وسوريا تخططان لهجوم منسق عبر قناة السويس ومرتفعات الجولان قبل حلول الظلام اليوم”.

أرسل كيسنجر رسالة إلى الرئيس نيكسون عبر غرفة العمليات في البيت الأبيض، جاء فيها: “في الساعة 6:00 صباح اليوم (1 ظهراً بتوقيت إسرائيل)، تم إخطاري بأن الإسرائيليين لديهم ما يعتبرونه معلومات صعبة، كان المصريون والسوريون يخططون لإطلاقهم هجوماً منسقاً في غضون ست ساعات”. (إنتهى الأمر بالمصريين والسوريين في الواقع الى الهجوم في الساعة 1:55 بعد الظهر).

إتصل كيسنجر بالسفير السوفياتي في الولايات المتحدة أناتولي دوبرينين، وأخبره بخطورة الموقف، وأكد له أن “الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي يتحملان مسؤولية خاصة لكبح جماح أصدقائهما”.

وأضاف: “نتواصل بصورة عاجلة مع الاسرائيليين ونحذرهم من أي هجوم استباقي”، مؤكداً للسفير أن الأهم هو تجنب الصراع العسكري.

ووافق السفير على الإتصال بموسكو لنقل الرغبة الأميركية في الطلب منها، كبح جماح الدول العربية. وسُمح للسفير بإستخدام نظام الاتصالات الأميركي للقيام بذلك بسرعة أكبر.

وكان كيسنجر يضع الرئيس نيكسون أولاً بأول في حركته الديبلوماسية، كما إتصل برئيس مكتب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك أفنير شاليف، الذي كان وغولدا مائير متفقان مع الموقف الأميركي ضد الضربة الاستباقية. واتصل وزير الخارجية بوزير الخارجية المصري، والعاهل الأردني الملك حسين، والملك السعودي فيصل، طالباً التدخل السعودي مع سوريا ومصر لإحباط الحرب.

في النهاية، أخبر كيسنجر الرئيس نيكسون باعتقاده أن مخاوف إسرائيل من هجوم لها ما يبررها (كما إتضح بالفعل). لقد كان يأمل، مع ذلك، أن تسود الفطرة السليمة والرؤوس الهادئة.

إعترافات مخابراتية أميركية بسوء التقدير:

لا تعترف وكالات المخابرات المركزية في كثير من الأحيان بأخطائها، لكن الوكالة الأميركية فعلت ذلك بالضبط من خلال رفع السرية عن مذكرات المخابرات حول الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973. إذ تظهر الوثائق أن محللي الوكالة، حتى اللحظة الأخيرة قبل إندلاع القتال، كانوا يؤكدون للرئيس نيكسون والوزير كيسنجر وصنّاع القرار الآخرين، أنه من غير المرجح أن تهاجم مصر وسوريا إسرائيل.

هذه التقويمات، على حد تعبير تقرير وكالة المخابرات المركزية الأميركية: “كانت بكل بساطة، ومن الواضح، وبصورة صارخة، خاطئة”.

بعد ما يقرب من 50 عاماً، يقول محللو وكالة المخابرات المركزية المسؤولون عن هذه الأحكام إنهم ما زالوا منزعجين من أخطائهم. وتظهر وثائق الوكالة التي رفعت عنها السرية، أن محلليها كانت لديهم إشارات كثيرة على أن مصر وسوريا تستعدان لمهاجمة إسرائيل، لكنهم تجاهلوا الأدلة، معتبرين أن سيناريو الحرب غير معقول للغاية.

أقر محللون سابقون في وكالة المخابرات المركزية صراحة بفشلهم في توقع إندلاع الحرب في أكتوبر 1973.

وفي هذا الاطار، قال تشارلز آلن، الذي شارك في كتابة تقرير 4 أكتوبر من قبل مجلس الاستخبارات الأميركي: “بالنظر إلى الماضي، لا أعرف لماذا لم نعطِ المزيد من التحذير”.

وقال آلن: “إن التدريبات وأنشطة التأهب الجارية في مصر ربما تكون على نطاق أوسع نوعاً ما وأكثر واقعية من التدريبات السابقة، لكن لا يبدو أنها إستعدادات لهجوم عسكري ضد إسرائيل”.

بعد يوم واحد، كان ألن وزملاؤه في وكالة المخابرات المركزية أكثر صراحة، في نشرة ركزت على الحشود العسكرية المصرية على طول قناة السويس.

الغطرسة الاسرائيلية:

لم تكن وكالة المخابرات المركزية وحدها التي فشلت في توقع الهجوم العربي. كان الاسرائيليون يصرون أيضاً على أنه لن تكون هناك حرب، حتى عندما أوضح المسؤولون الأميركيون أسباباً للقلق. ففي تصريحاته، قال آلن إن “الغطرسة” الاسرائيلية ربما أثرت على التفكير الأميركي! فقد رفضت المخابرات العسكرية الاسرائيلية مراعاة الاشارات المزعجة التي تم إلتقاطها عشية الصراع واستمرت في الحكم على إحتمال وقوع هجوم مصري – سوري بأنه “ضعيف للغاية”، فوقعت ضحية لثقتها الزائدة وتبجحها بالهزيمة التي ألحقتها بالعرب خلال حرب الـ1967.

لقد شكلت حرب “أكتوبر” الفشل الأكبر لجهاز المخابرات الاسرائيلي “الموساد”، بسبب عدم قدرته على تحذير الحكومة من الهجوم الوشيك، الذي كان مصدراً لزلزال سياسي كبير منذ إستقالة رئيسة الوزراء غولدا مائير من منصبها بعد إتهامها بقصر النظر وعدم التفكير.

في الواقع بالنسبة الى الدولة اليهودية، كانت حرب “يوم الغفران” بمثابة خيبة أمل مريرة، بعدما تم تقويض أسطورة “الجيش الذي لا يقهر”، وكذلك أسطورة عصمة أجهزة المخابرات الاسرائيلية.

شارك المقال