48 عاماً… ولم يتحقق السلام الحقيقي!

محمد شمس الدين

48 عاماً على اندلاع الحرب الأهلية، ولا تزال آثارها باقية إلى اليوم، فكلما انسد الأفق السياسي تُستحضر مصطلحات الحرب التي مضى عليها الزمن في اللغة السياسية، وبدل أن يعترض الشعب اللبناني على استحضار السياسيين لهذه اللغة، يركب الموجة بل يزايد على السياسي الذي استخدم هذه العبارات بلغة بغيضة أكثر، وهنا السؤال الذي يطرح نفسه، ألم يتعظ الشعب من مآسي الماضي؟ ولماذا يستمر في هذه اللغة؟

الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الانسان تعتبر أن الشعوب التي عانت من حروب أهلية تحتاج إلى “العدالة الانتقالية” لطي الصفحة فعلياً، فما هي هذه العدالة؟ انها تشير إلى كيفية استجابة المجتمعات لإرث الانتهاكات الجسيمة والصارخة لحقوق الانسان، خلال فترات النزاع أو الحكم الديكتاتوري. وبالنسبة الى الأمم المتحدة تغطي العدالة الانتقالية “كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة”. وتهدف إلى الاعتراف بضحايا تجاوزات الماضي على أنّهم أصحاب حقوق، وتعزيز الثقة بين الأفراد في المجتمع الواحد، وثقة الأفراد بمؤسسات الدولة، وتدعيم احترام حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون وبالتالي، تسعى العدالة الانتقالية إلى المساهمة في المصالحة ومنع الانتهاكات الجديدة.

العدالة الانتقاليّة تُعنى، أوّلاً، بالضّحايا، قبلَ أي اعتبارٍ آخر. وهي تركز على حقوقهم وكرامتهم بصفتهم مواطنين وأشخاصاً، وتسعى إلى المحاسبة على الأضرار التي تكبدها هؤلاء، وانتزاع الإقرار بهذه الأضرار وتحقيق الإنصاف في شأنها، وتهدف إلى إنهاء الحلقات المتجددة من النزاع العنيف، عبر وضع مجموعة من الاستجابات المختلفة، التي قد تشمل إدخال الاصلاحات إلى الأنظمة القانونية والسياسية والمؤسسات التي تحكم المجتمع، بالإضافة إلى وضع آليات إلزامية لكشف حقيقة ما جرى وأسبابه، وتحديد مصير المعتقلين والمخفيين قسراً، وتشمل أيضاً الملاحقات الوطنية القضائية أو الجنائية الدولية، الآيلة إلى محاسبة الجناة، وكذلك التعويض عن الضرر الذي لحق بالضحايا، والذي قد يتخذ أشكالاً عديدة: مالي، استرجاع الممتلكات، استرداد الحقوق المدنية والسياسية، والحصول على الرعاية الصحية… إلخ، بالاضافة إلى الاعتراف بالضحايا والاعتداءات التي تعرضوا لها وتخليد ذكراهم.

الهدف الأساس للعدالة الاجتماعية هو مجتمع أكثر سلاماً وعدلاً وشمولاً للجميع، صفّى حساباته مع ماضيه العنيف، وحقق العدالة للضحايا. وتجدر الاشارة الى أنه ليست هناك خطة موحدة للوصول إلى العدالة الاجتماعية، فلكل مجتمع خصائصه. ويجب التذكير بأن نماذج العدالة الاجتماعية لم تكن ناجحة 100%، فهي مسار طويل قد يأخذ سنين طويلة، إلا أن الأهم هو البدء بمسارها، وعدم إنهاء النزاعات بتبويس اللحى كما حصل في لبنان.

انتهت الحرب الأهلية وقرر السياسيون في حينه طي الصفحة من دون البدء بعملية شفاء الشعب من مآثر الحرب، ولا يزال ذوو الضحايا ينتظرون التحقيقات التي تكشف حقيقة ما جرى، ومن المرتكبون. لم تكلف لجنة تقصي حقائق عن المقابر الجماعية ومصير المفقودين والمخفيين قسراً، بل فضّلت السلطة آنذاك أن تبدأ من جديد كأن لا وجود للماضي على مبدأ “تنذكر وما تنعاد” فقط، بل أكثر من ذلك كل الميليشيات التي شاركت في الحرب تسلمت السلطة، وليست سلطة مدنية ديموقراطية، بل سلطة محاصصة، وبدأت الحروب السياسية بينها، وتستخدم فيها شتى أنواع الأسلحة المحرّمة كلامياً، من أجل تحقيق أهذاف سياسية.

الأسلوب الذي اتبعته السلطة اللبنانية لطي صفحة الحرب، من الطبيعي أن يتسبب بإعادة لغتها في كل مفترق طرق يمر به البلد، فهل يمكن لأم فقدت ولدها خلال الحرب، إن كان قتلاً أو إخفاءً أن تنسى؟ أو هل يمكن لطفل يعلم أن إحدى الميليشيات مسؤولة عن قتل والده أن يسامح؟ وهنا لا نتحدث عن ضحايا المعارك، فهم يعتبرون أبطالاً عند ذويهم وبيئتهم، وهم بالنسبة اليهم سقطوا وهم يدافعون عن قضيتهم، الحديث هنا عمن قُتلوا من دون أي وجه حق، إن كان إعداماً أو تحت وابل القذائف التي لم تفرّق بين مدني ومسلح، أو بسبب عبوات الحقد.

وتجدر الاشارة الى حصول مبادرات فردية من الأطراف التي كانت تتقاتل في الحرب مثل مصالحة الجبل، أو مصالحة “المردة” مع “القوات”، إلا أنه من دون قضاء يحكم في الارتكابات التي حصلت ويعترف بالضحايا ويدين المرتكبين، لن تتحقق العدالة فعلياً، ولن يصل البلد إلى مجتمع سلام حقيقي، تحديداً مع حصول مناوشات مسلحة عديدة منذ إنتهاء الحرب حتى اليوم.

شارك المقال