ذكرى “تفاهم نيسان”… الحريري عزّز الدور التحريري بغطاء شرعية الدولة

زياد سامي عيتاني

في شهر نيسان من العام 1996، قام الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك بزيارة دعم (وصفت بالتاريخية) الى لبنان، كأول رئيس دولة أوروربية، بعد توقّف الحرب الأهلية، بموجب “اتفاق الطائف”.

حينها، كانت لا تزال أجزاء من الجنوب والبقاع الغربي، تقبع تحت الاحتلال الاسرائيلي، فيما كانت “المقاومة” (التي تمّ “حصرها” بـ “حزب الله” جرّاء اتفاق بين النظامين السوري والايراني)، تقوم بتنفيذ عمليات تستهدف إسرائيل.

عدوان “عناقيد الغضب”:

وكانت إسرائيل تحتج على هجمات “حزب الله”، ليس بسبب قساوتها على نحو خاص، بل لأنها كانت تخوض انتخابات عامة، وكان بنيامين نتنياهو يوجّه انتقاداته الى رئيس الوزراء آنذاك شيمون بيريز ويتهمه بالضعف في التعامل مع (اعتداءات) “حزب الله”. وكانت الولايات المتحدة تحبّذ فوز بيريز، لأنّها كانت تعتقد أنّ ذلك سيدعم عملية السلام، وأراد الأخير أن يظهر أنّه في الوقت الذي هو رجل سلام، فإنّ بوسعه شن الحرب أيضاً (بصفته قائماً بأعمال رئيس الحكومة بعد إغتيال اسحق رابين)، من خلال القيام بعملية عسكرية واسعة النطاق ضدّ قواعد “حزب الله” في جنوب لبنان، أطلق عليها “خريف الغضب”، والتي تحوّلت إلى عملية غضب ضدّ اسرائيل بعد أن قامت قواتها بالقتل المتعمد لـ 109 أشخاص مدنيين، من الأطفال والنساء والشيوخ، ممن احتموا في مركز تابع للأمم المتحدة في بلدة قانا جنوب لبنان.

وأخذ الاسرائيليون يبحثون عن الأعذار، وزعموا أنّ مقاتلي “حزب الله” قد لجأوا إلى ذلك المركز التابع للأمم المتحدة، لكن مسؤولي المنظمة الدولية نفوا هذه المزاعم، ليعترف الاسرائيليون بعد ذلك بالقول: “إن خطأ حدث في تنسيق عمليات القصف”.

وهذا الزعم أيضاً تبيّن أنه غير صحيح، بأدلة مصوّرة وتسجيلات صوتية بين القوات الاسرائيلية البرية والجوية، إلتقطتها الوحدة النروجية التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان. فقد رصد أفراد هذه الوحدة طائرات اسرائيلية من دون طيّار تحلق فوق معسكرهم في بلدة قانا قبل قصفه في الثامن عشر من نيسان، وقاموا بالتقاط الصور للطائرات وسجلوا أصوات القصف.

ومنذ اليوم الأول للعدوان الاسرائيلي ذي السلوك الاجرامي، وظف الرئيس الشهيد رفيق الحريري كلّ إمكاناته وعلاقاته الدولية والعربية، لكبح جماح العدوان، بحيث قضى غالبية أيام الاعتداءات في الجو، متنقلاً من عاصمة الى أخرى، لضمان موقف دولي مندّد بإسرائيل وداعم للبنان، ولم يتوقف ولم يهدأ، إلا حينما تمكّن من انتزاع ما عُرِف لاحقاً بـ “تفاهم نيسان”.

وكانت البداية مع صديقه الرئيس شيراك، الذي ضمن الحريري منه موقفاً داعماً، رداً على “مجزرة قانا”، وأقنع رئيس وزراء بريطانيا جون ميجور والرئيس الروسي بوريس يلتسين بالتنديد بها، وبعث برسالة مقنعة إلى المستشار الألماني غيرهارد شرودر.

في الولايات المتحدة، إعتمد الحريري على دعم السفير السعودي بندر بن سلطان (الذي طوّر علاقة وثيقة بالرئيس بيل كلينتون كما مع سلفه جورج بوش الابن)، وكان كلينتون يخشى أن يفقد التأييد لمبادرة سلمية في الشرق الأوسط، لذلك أوعز إلى وزير خارجيته وارن كريستوفر بأن يفعل كلّ ما هو ممكن لمعالجة تداعيات “مجزرة قانا”.

وأسفرت الجهود الجبارة والمضنية التي بذلها الرئيس الشهيد بمهارة ديبلوماسية قلّ نظيرها في 26 نيسان، عن التوصّل الى “تفاهم نيسان” الذي أوقف العملية العسكرية التي فجّرها الحقد الاسرائيلي، بعدما حظي التفاهم آنذاك بدعم إقليمي ودولي كاملين، بدءاً بموقف الادارة الأميركية التي إلتزمته أصلاً، مروراً بموقف قمة الدول السبع التي انعقدت في فرنسا، وصولاً إلى قمّة القاهرة العربية التي انعقدت في الشهر ذاته.

ويسجّل للرئيس الشهيد أنه تمكّن من أن يحقق للبنان إنجازاً تاريخياً من خلال فرض “التفاهم”، الذي شكّل الاتفاق المكتوب الثاني (بعد اتفاق الهدنة للعام 1949) الذي يلزم إسرائيل ولبنان معاً، بعد أن صدّق مجلسا الوزراء في البلدين عليه، كما أنّه ملزم للجانب الأميركي الذي أعلنه، حسبما ورد في سطره الأول.

كما أنّ التفاهم لا يصرّ على وقف كامل ونهائي لاطلاق النار، وإنما يهدف إلى توفير سلامة المدنيين، إضافة إلى تجنيب الأهداف المدنية في لبنان، ما أبقى حقه في تحرير أرضه من الاحتلال الإسرائيلي.

على الرغم من أهمية كلّ مضامين “تفاهم نيسان”، إلا أنّ وجهاً أساسياً في مندرجاته، هو الأهم في كلّ بنوده، وإنْ لم يسلط الضوء عليه حينها، ربما عمداً (!)، ويتمثّل في أنّ “التفاهم” كرّس عودة الدولة اللبنانية “الرسمية” إلى الجنوب، بعدما كان محظوراً عليها ذلك، من خلال تأكيده على تمثيل الدولة اللبنانية (جيشاً ووزارة خارجية) في اللجنة التي انبثقت عن “التفاهم” لمراقبة حسن تطبيقه، والتي ضمّت أيضاً ممثلين عن الولايات المتحدة وفرنسا والأمم المتحدة.

يومئذٍ، حقّق الرئيس الشهيد رفيق الحريري من خلال الشروط التي فرضها على “التفاهم” إنجازاً كبيراً لـ”السيادة” اللبنانية، بتمكين بسطها في جنوب لبنان، من خلال انتشار الجيش اللبناني فيه، بعدما كان ممنوعاً من ذلك طوال عقد من الزمن.

إنّها “الثنائية الماسية” التي كرّس معادلتها وقواعدها الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والمتمثّلة، أولاً بحق تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة من اسرائيل، وثانياً شرعنة هذا الحق من خلال شرعنة حضور الدولة وجيشها ودورها، التي كانت هدفه الأساس، والوجه الأهم لما كان يتطلّع إليه، بوصفه حامل “مشروع الدولة”.

شارك المقال