هل تعود سوريا إلى بيئتها العربية من البوابة السعودية؟

زياد سامي عيتاني

خطت المملكة العربية السعودية، التي اشتُهرت بالديبلوماسية الهادئة وطويلة الأمد، في الأسابيع الماضية، خطوات ملحوظة نحو الانفتاح على سوريا، وسط مساعٍ حثيثة تبذلها مع أكثر من دولة عربية، لاعادتها الى الحظيرة العربية، بعد تجميد عضويتها في جامعة الدول العربية، إحتجاجاً على حملة القمع المدوّية التي شنّها الرئيس بشار الأسد على التظاهرات الشعبية السلمية (قبل شيطنتها)، والتي أدت إلى اندلاع حرب أهلية استمرت عشر سنوات.

فقد أعلنت المملكة فجأة الأسبوع الماضي أنها تتجه الى إعادة العلاقات مع سوريا، بعدما كانت أغلقت سفارتها في دمشق، وسحبت كل الديبلوماسيين والعاملين فيها في آذار 2012، بعد نحو عام من اندلاع النزاع في سوريا.

أتت هذه الخطوة، بعد أن قام وزير الخارجية السورية فيصل المقداد بزيارة الى جدة، هي الأولى من نوعها منذ بدء الصراع السوري، وحث ونظيره السعودي فيصل بن فرحان على “الخطوات اللازمة” لإنهاء عزلة دمشق، (بحسب بيان سعودي صدر في أعقاب الزيارة). وأعلنت وكالة الأنباء السعودية أن الجانبين بحثا خلال اللقاء في الخطوات اللازمة لتحقيق تسوية سياسية شاملة للأزمة السورية، تنهي تداعياتها كافة وتحقّق المصالحة الوطنية، وتسهم في عودة سوريا إلى محيطها العربي، وتهدف الى استئناف “دورها الطبيعي” في المنطقة.

ولم يمضِ أسبوع على زيارة المقداد الى السعودية، حتى بادله نظيره بن فرحان زيارة غير مسبوقة إلى دمشق في 18 نيسان الجاري. وتكريساً للمصالحة بين المملكة وسوريا استقبله الرئيس الأسد، الذي أكد أن العلاقات بين دمشق والرياض لا تشكّل مصلحة للبلدين وحسب، وإنما تعكس مصلحة عربية وإقليمية أيضاً. في حين أعلنت الخارجية السعودية في بيان أنّ الأسد وبن فرحان بحثا خلال إجتماعهما في “الجهود المبذولة للتوصّل الى حل سياسي للأزمة السورية”.

وأتت الزيارتان بعد اجتماع عقد في 14 نيسان في المملكة العربية السعودية بين تسع دول عربية، بما في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي، جرى خلاله البحث في موضوع إعادة سوريا إلى جامعة الدول العربية، وأكد البيان الصادر عن الاجتماع أنّ الحل السياسي هو الحل الوحيد للأزمة السورية، مع التشديد على أهمية أن يكون هناك دور قيادي عربي في الجهود الرامية الى إنهاء الأزمة، ووضع الآليات اللازمة لهذا الدور، وتكثيف التشاور بين الدول العربية بما يكفل نجاح هذه الجهود.

كذلك، تزامنت الزيارتان، مع الاجتماع الذي عقد في السعودية وجمع دول مجلس التعاون الخليجي والأردن ومصر والعراق، وشدد على ضرورة الحل السياسي لأزمة سوريا.

واللافت أن المصالحة السورية – السعودية تندرج في سياق تهدئة التوترات بين السعودية و”خصمها” الاقليمي الكبير إيران، الداعمة للنظام في دمشق سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، بحيث أنّ الدولتين “الثقيلتين” في الشرق الأوسط، اللتين قطعتا العلاقات بينهما في العام 2016، أبرمتا في آذار الماضي، إتفاقية غير متوقّعة بوساطة الصين، بهدف استئناف العلاقات بينهما. وتعهدتا بالعمل معاً من أجل “الأمن والاستقرار في المنطقة”.

كذلك، فإن الانفتاح السعودي على سوريا أتى في خضم تحركات ديبلوماسية إقليمية يتغيّر معها المشهد السياسي في المنطقة، بعد الاتفاق السعودي -الايراني. ومن الواضح، أن المملكة، وبعد سنوات من التشابك العسكري المكلف، والصراعات بالوكالة، تسعى الى تحقيق الاستقرار في المنطقة، ويقول المحللون “إنّ الدفع الديبلوماسي السريع للسعودية يمكن أن يعيد تشكيل الديناميكيات الاقليمية، في وقت يسود عدم اليقين بشأن مستقبل المشاركة الأميركية!”.

وحسب ما تكشف مصادر متابعة، فإنّ أكثر من لقاء مباشر عقد بين وفود من النظام السوري والأميركيين في سلطنة عمان. وكان المجال التمهيدي لهذه اللقاءات، مفاوضات غير مباشرة بين الجانبين، تركزت حول عدد من النقاط، أبرزها إطلاق سراح 7 رهائن أميركيين في سوريا، على رأسهم أوستن تايس. فيما بعد، وضعت ورقة سياسية شاملة، هي التي فرضت الذهاب إلى حوار مباشر. وبالارتكاز عليه، تسارعت وتيرة التفاوض بين دول عربية والنظام السوري.

هنا، يمكن طرح سؤال ما إذا كان المسار السعودي في الانفتاح على دمشق، يشبه المسار نفسه في الانفتاح على طهران؟

فثمة مراقبون يعتبرون أن السعودية كانت على علم بوجود مفاوضات أميركية – إيرانية ومفاوضات أميركية – سورية، فأرادت الرياض إستباق ذلك بإنتهاج طريق خاص بها بمعزل عن الأميركيين. في المقابل، يرى محللون أن السعودية تحاول الآن تهدئة المنطقة حتى تستطيع التركيز على تنفيذ مشاريع محلية طموحة، تهدف إلى تنويع مصادر إقتصادها الذي يعتمد بصورة كبيرة على النفط.

كما يعتبر المحللون أن الزخم الديبلوماسي الذي تولد في أعقاب الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا الشهر الماضي قد يعزز علاقات دمشق مع دول المنطقة، التي قاومت حتى الآن إصلاح العلاقات بعد مرور أكثر من عقد على بدء النزاع.

أياً تكن الحسابات السياسية، فان من شأن هذه الخطوة التمهيد بصورة كبيرة لعودة دمشق إلى الصف العربي، وستكون ضمن أجندة الجامعة العربية وإجتماعها المقبل في السعودية في أيار المقبل.

وفي هذ الاطار، أعلن وزير الخارجية السعودي مؤخراً أن هناك توافقاً في الآراء في العالم العربي على ضرورة اتباع نهج جديد في التعامل مع دمشق. كما أكد مسؤول في وزارة الخارجية أن “الوضع الراهن لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، ونحن بحاجة إلى التفكير في طرق للتواصل مع سوريا”.

الى ذلك، تبذل المملكة العربية السعودية جهوداً مضنية لكي لا تكون القمة العربية التي ستستضيفها في 19 أيار المقبل، مجرد قمة عادية، تنتهي ببيان ختامي، كما جرت العادة، يُصاغ بكلمات وجمل “بيضاء”، تؤكّد المؤكّد من الثوابت والمسلمات العمومية، التي تتضمنها كلّ بيانات القِمم العربية. فالمملكة تدرك في هذه المرحلة المصيرية من التاريخ العربي، أهمية الدور الاقليمي الملقى على عاتقها، لجهة المشاركة من موقعها العربي في عملية قيادة إعادة ترتيب الخارطة “الجيوسياسية” للشرق الأوسط.

إنطلاقاً من هذه المسؤولية، تنشط الديبلوماسية السعودية بتوجيه من وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، على أكثر من صعيد عربي، بهدف “لملمة” الوضع العربي، الذي يعاني أقصى درجات التشتّت والتشرذم، جرّاء استفحال الخلافات بين الدول العربية واستحكامها على أكثر من قضية. ولعلّ أكثر موضوع خلافي يتحكّم بالخلافات العربية، هو الموضوع السوري، بكل تعقيداته وتشعباته الاقليمية والدولية.

فبعد التوصّل إلى التقارب السعودي – السوري، تسعى المملكة الى تعبيد الطريق أمام عودة سوريا إلى الحظيرة العربية، من بوابة القمة العربية المرتقبة، في حال اقتناع النظام بتغيير نهجه وسلوكه الداخلي، ومع الدول العربية والموافقة على مطالبها، وبالتالي التحرّر من “القبضة” الايرانية.

ويدعم توجّه السعودية في مسعاها، دولة الامارات، اذ أنّهما تدعوان إلى عودة سريعة لنظام الأسد إلى الحضن العربي، بعدما اقتنعتا بأنّ السياسات الدولية التي تعزل النظام السوري، أثبتت أنّها أتت بنتائج عكسية مع مرور الوقت، ممّا عزّز نفوذ إيران في سوريا، واستطراداً في المنطقة.

إلّا أنّ الجهود التي تقودها السعودية لاعادة النظام السوري إلى الجامعة العربية، ليست معبدة الطريق، بسبب عدم توافر إجماع عربي على هذه العودة، (على الرغم من أنّ عضوية سوريا لم توقف بالاجماع في الجامعة العربية، ولكن عند عودتها هناك رغبة في وجود إجماع من الدول الأعضاء)، اذ أنّ خمسة أعضاء على الأقل في جامعة الدول العربية، منهم المغرب والكويت وقطر واليمن، رفضوا عودة سوريا إلى الجامعة. حتى مصر، وهي تقليدياً أحد أقرب شركاء السعودية، أعربت عن تحفظات، على الرغم من اجتماع كبار الديبلوماسيين السوريين والمصريين مؤخراً في القاهرة.

في هذا السياق، قال الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط: “لا يوجد إجماع عربي في الوقت الحالي بشأن قضية إعادة قبول النظام السوري في جامعة الدول العربية”.

وأكثر من ذلك، فإنّ الدول التي تعارض إعادة قبول النظام السوري ضاعفت من مطالبها، بما في ذلك قمع تهريب المخدرات غير المشروع، ومطالبة إيران بالتوقّف عن توسيع نفوذها في البلاد، ومطالب أخرى عديدة، كما أنّها تريد من الأسد التعامل مع المعارضة السياسية السورية بطريقة تمنح جميع السوريين صوتاً لتقرير مستقبلهم.

وذهبت بعض الدول إلى تكرار مطالبتها بأن تقبل سوريا القوات العربية لحماية اللاجئين العائدين. وتعتبر أنّ الأسد لم يُظهر حتى الآن أيّ اهتمام بالتغيير السياسي، بل إنّه وباعترافه، يركّز على ترميم علاقاته بصورة ثنائية مع الدول العربية، إذ أكّد في آذار الماضي أنّ الشيء الرئيس بالنسبة اليه هو إعادة إقامة علاقات ثنائية جيدة مع الدول العربية، قبل العودة المحتملة إلى جامعة الدول العربية.

وهذا ما يدفع الدول الرافضة أو المتحفّظة، إلى إبداء خشيتها من أن تكون مواقف الرئيس السوري لا تعدو كونها مناورات لكسب مزيدٍ من الوقت، لتثبيت نفوذه أكثر، بعدما تمكّن من بسط سلطته على غالبية المناطق السورية، مما سيُضفي الشرعية على نظامه، وعلى تطبيع العلاقات العربية معه.

وفي الوقت نفسه، تتساءل تلك الدول “عما إذا كان بإمكان الأسد الالتزام بما هو مطلوب منه، حتى لو أراد ذلك”؟ وبالتالي هل تملك الرياض ضمانات كافية، لفض العزلة العربية عنه؟

صحيح أنّ الموقف السعودي يمكن اعتباره نتاجاً للتغيّر العام الذي طرأ على المنطقة عموماً، لكن من خلال قراءة أدق للحدث تشير إلى أنّ هناك خلفيّات أخرى يجب أخذها في الحساب، فهو يبدو إستكمالاً للاختراق المفاجئ الذي مثّله الاتفاق السعودي – الإيراني، كما أنّه خضع، على ما يظهر، لاعتبارات سعودية، تندرج في سياق “الدينامية” الديبلوماسية “البراغماتية” التي تنتهجها.

فالمعلومات المتوافرة تشير إلى أنّها تلقّت التطمينات المطلوبة خلال الزيارة السرّية التي قيل إنّ رجل المخابرات السورية حسام لوقا قام بها الى الرياض، وأنّ المحادثات شملت موضوع الأمن على الحدود السورية مع الأردن، وقضايا تهريب الكبتاغون والسلاح من سوريا إلى الأردن ثمّ السعودية ودول الخليج، والذي اتبع بتبادل الزيارات الديبلوماسية بين البلدين، والذي ما كان ليتمّ لولا استجابة النظام السوري لمطالب سعودية محدّدة.

وفي الوقت نفسه، وبحسب مسؤولين عرب، فإنّه على الرغم من نفوذ المملكة، وجهودها في لمّ الشمل العربي، من غير المرجح أن تجبر باقي الدول العربية على تسريع خطوات التطبيع مع النظام السوري، بل إنّها تسعى في الوقت الحاضر، الى الحصول على موافقة (ولو مشروطة) بإعادة سوريا إلى الجامعة العربية، مع تعهدها بالعمل على تذليل كلّ القضايا العالقة ومعالجتها، تبعاً لخصوصية كلّ دولة.

في حال وافق النظام السوري على مطالب الدول الرافضة، فمن شأن هذه الخطوة أن تفتح الطريق، ليس لعودة النظام إلى جامعة الدول العربية وحسب، ولكن أيضاً قد تسمح لها بإضافة أصواتها إلى أيّ جهد أوسع للضغط على الولايات المتحدة والقوى الأوروبية لرفع العقوبات عن الأسد.

فهل تنتهي عزلة سوريا عربياً، ويتلقف الرئيس الأسد المبادرة السعودية، بإعادته إلى الحاضنة العربية من البوابة السعودية الرحبة؟

شارك المقال