في ذكرى المفتي حسن خالد… “المظلومية” مستمرة!

زياد سامي عيتاني

34 عاماً على اغتيال المفتي الشهيد حسن خالد، ولا تزال الطائفة السّنّيّة (ركيزة الشراكة الوطنية وضمانة كيانية للبنان وإنتمائه العربي) عرضة للاستهداف والتهميش والتقويض سياسياً، بهدف إلغاء دورها الوطني الوحدوي الجامع، لحساب المشروع الطائفي المذهبي التفتيتي “المفدرل” للبنان الوطن والرسالة والنموذج!

إغتيال المفتي خالد، لم يكن مجرد انتقام إجرامي من مواقفه وثوابته الوطنية، التي بلغت ذورتها بالثوابت العشرة التي صدرت عن اللقاء الاسلامي في دار الفتوى، بل جاء إنتقاماً ثأرياً، وإسكاتاً وإلغاءً نهائياً لدور دار الفتوى بما تمثّل من مرجعية وطنية وإسلامية، بعدما أخذ المفتي الشهيد المبادرة بأن تأخذ “الدار” موقعاً متقدّماً في التصدي بجرأة وشجاعة للاستهداف والمظلومية السياسية التي تعرّضت لها الطائفة السنّية (كدور وطني بخلفية عربية متنوّرة)، ولملء الفراغ على الساحة السنية، ولمعالجة الخلل في الميزان الوطني، لحرصه وقناعته بأنّ إضعاف الطائفة واقصائها عن المعادلة الوطنية الداخلية، هدفه الاطاحة بفكرة لبنان “التعايش والتعدّد”، لتمرير مشاريع الهيمنة الطائفية والمذهبية الضيقة، وسلخ لبنان عن هويّته وبيئته العربية، وزجّه في مغامرات المحاور، التي تبقيه إلى أن يفنى، ساحة مفتوحة ومشرّعة أمام صراعاتها وحروبها التي لا تنتهي.

منذ ذلك التاريخ، تحوّل مقام مفتي الجمهورية وموقع دار الفتوى إلى القيادة “المرجع” للمسلمين السّنّة، يعبّران عن مواقفهم ويدافعان عنهم في مواجهة الغزوات والهجمات العسكرية الحاقدة والناقمة من العصابات الميليشيوية المتمذهبة غلاً وبغضاءً، عندما كانت تستبيح حرمتها وتنكّل بأهلها.

يومها، وقف المفتي الشهيد وحيداً يرفع الصوت عالياً، باسم بيروت المستباحة والمنكوبة، التي تتعرّض لموجات متوالية من الذل والهوان. لم يحلُ لمن كان يصدر الأمر من خلف الحدود لعصاباته المسلحة، أن يعلو صوت الحق في وجه الباطل، ولا الكلمة الجامعة في زمن الشرذمة (!) فإنّ ذلك، يشوّش على دناءة مؤامرتهم الخبيثة لترويض الطائفة السنّية الوحدوية، حتى تلتحق بمشروعهم “الشعوبي” للهيمنة النهائية على لبنان ومصادرة قراره السيادي. فصدر أمر اليوم الاجرامي بضرورة التخلص من “تمرد” المفتي حسن خالد على تعليمات “الباب العالي” الذي نفذ الساعة 12:55 ظهر الثلاثاء الواقع فيه 1989/5/16 الموافق 11 شوال 1409هـ، عند تقاطع عائشة بكار بسيارة مفخخة، فراحت الناس التي أصيبت بما يشبه حالة من الهستيريا تصرخ بغضب: “إغتالوا المفتي… إغتالوا المفتي”.

منذ ذلك التاريخ المشؤوم، شهد لبنان تطورات وتحوّلات متراكمة، بحيث إذا ما إستثنينا مرحلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فإن الطائفة السنّية دفعت، ولا تزال تدفع ثمن مواقفها الوطنية والقومية، التي هي بالنسبة اليها ثوابت ومسلمات لا يمكن تحت أي ظرف أن تحيد عنها، والتي تتمثل في ترسيخ “إتفاق الطائف” والإصرار على نهائية لبنان العربي دولة لجميع اللبنانيين، والتمسك بالعيش المشترك والمناصفة بين جميع مكوناته المجتمعية، وبناء الدولة المدنية، والتحذير من تفاقم التجاوزات والأطماع باسم طوائف ولمصلحة قوى مهيمنة فيها، والقلق بشأن إدخال لبنان في سياسات المحاور، والاصرار على الترهيب بالسلاح واستخدامه فعلاً في العمل السياسي للتعطيل أو السيطرة.

ومن دلائل الاستهداف المنظم والممنهج للدور الوطني للطائفة السنّية (التي بلغت ذروتها عند الاغتيال المزلزل للرئيس الشهيد رفيق الحريري)، أنها تعيش مأزقاً غير مسبوق، بات يشكل تهديداً وجودياً لها ولموقعها الريادي المتقدم في المعادلة السياسية الوطنية. فهي تعيش في الوقت الراهن حالة من الضبابية، لا بل السوداوية والضياع إزاء واقعها السياسي المتراجع، كما يخيم شعور عام على بيئتها بالمظلومية والاحباط، وصولاً الى الإلغاء والإقصاء السياسي.

ومن أبرز تلك المحطات:

– إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

– تظاهرة “شكراً سوريا” التي نظمها “حزب الله”، وقابلتها تظاهرة 14 آذار المليونية، التي أسست لانتفاضة الإستقلال.

– الانسحاب العسكري السوري في نيسان 2005.

– إتفاق “مار مخايل”.

– توسّع النفوذ الإيراني في لبنان.

– الانقسام المذهبي الحاد.

– تبلور ثنائية سياسية شيعية.

– العدوان الاسرائيلي على لبنان عام 2006.

– توقيع إتفاق الدوحة عام 2008، بعد أحداث السابع من أيار، وما أنتجه من حكومة وحدة وطنية لم يجمعها سوى التناقض على المستوى السياسي والاستراتيجي، تحكّم بها “الثنائي” من خلال بدعة “الثلث المعطل”.

– سعي فريق “8 آذار” إلى تطويق المحكمة الدولية عبر التحذير من الفتنة حيناً، ومن تداعيات القرار الاتهامي حيناً آخر.

– الشغور الرئاسي.

— تسوية الإتيان بميشال عون رئيساً.

– تفجير مرفأ بيروت.

– ثورة 19 تشرين.

– إنهيار مالي وإقتصادي.

– تعليق الرئيس سعد الحريري عمله السياسي، وعزوفه عن الترشّح للانتخابات النيابية.

– غياب مرجعية سنّيّة وطنية قادرة على إستنهاض الشارع السّنّي، تزامناً مع تشتّت وتشرذم بين النّواب السّنّة.

الخطير في الموضوع، إصرار بعض القوى المحلية المنتشية بهذا التراجع لدور أهل السنّة (خصوماً وحلفاء) وإمعانها في الافادة منه وإستثماره لمصالحها، تكبيراً لأحجامها (وإن تورّماً)، إما إنتقاماً أو إستئثاراً، وحتى وراثة، متناسية أن ذلك سوف يتسبب بتداعيات عميقة في موازين القوى المحلية، وستكون له إنعكاسات خطيرة على مستقبل لبنان الكيان والصيغة، تهدّد نظامه التعددي، وتغيّر وجهه الحضاري، وتسلخه عن محيطه العربي.

اليوم، وبمناسبة هذه الذكرى بكل ما تحمل من مآسٍ وآلام، يتحسّر المسلمون في لبنان على الفراغ الهائل الذي يعيشونه على مستوى القيادتين الدينية والسياسية، وسط حالة من التخبط والتشتت وغياب الرؤية والمشروع والدور، والمظلومية المستمرة، مستذكرين كيف أنه عندما صدر قرار “الباب العالي” بتصفية القيادات والمرجعيات السنّية السياسية والحزبية أو تغييبها وإقصائها، كيف أن المفتي الشهيد حسن خالد أخذ المبادرة بجرأته المعهودة، وملأ ذاك الفراغ، مطلقاً معادلة غيّرت قواعد اللعبة، تتمثل في أنه “عندما يستضعف مقام رئاسة مجلس الوزراء، على مقام الافتاء أن يكون مصدر القوة للدور الوطني للطائفة السنّية”.

ما أحوج لبنان والسنّة الى حكمة “شهيد الوحدة الوطنية ورفض الهيمنة” المفتي حسن خالد وشجاعته وإقدامه وإنفتاحه.

شارك المقال