حكّام لبنان ينقلبون على حاكم “المركزي”!

زياد سامي عيتاني

هو أول حاكم مصرف مركزي عربي يقرع له جرس إفتتاح بورصة نيويورك.

حتى ما قبل العام 2019 كان يُصنّف وعلى مدى سنوات طويلة، “واحداً من أفضل المصرفيين في العالم”. ويُعدّ من أبرز حُكّام المصارف المركزية في العالم، بشهادة جهات ومؤسسات إقتصادية دولية منحته الجوائز والأوسمة.

وحاز عدة مرات على جائزة أفضل حاكم مصرف مركزي في العالم العربي من EUROMONEY، وجوائز مماثلة من مجلة The Banker، كما نال لأربع مرات درجة “A” التي تمنحها مجلة “غلوبال فاينانس”، لأفضل حكّام المصارف المركزية، آخرها في العام 2019، أي قبل شهرين تقريباً من بدء انهيار الليرة اللبنانية.

كذلك حصل على درجة “A” من حكّام المصارف المركزية في أستراليا، الكويت، المغرب، روسيا، كوريا الجنوبية، آيسلاند، هوندوراس، المكسيك وتايوان.

إنه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي جيء به الى هذا المنصب من شركة “ميريل لينش”، بعدما اكتسب بين العامين 1973 و1985، خبرة واسعة فيها، متنقلاً بين مكاتب بيروت وباريس، الأمر الذي أدى إلى تعيينه في 1985 نائباً للرئيس ومستشاراً مالياً. وشغل هذا المنصب حتى تعيينه حاكماً لمصرف لبنان في سنة 1993.

هو حاكم مصرف لبنان الوحيد الذي أعيد تعيينه لأربع ولايات متتالية في 1999 و2005 و2011 و2017.

اقترن اسم رياض سلامة على مدى عقود، عرّاباً لاستقرار الليرة وانتعاش الاقتصاد ما بعد الحرب الأهلية.

حافظ على إستقرار العملة اللبنانية واعتبر منقذاً لها، بعدما ثبّت سعر صرفها على 1520 ليرة للدولار الواحد، واصفاً الخطوة بأنّها تخلق استقراراً معيشياً، في ظل وجود احتياطات مهمّة بالدولار الأميركي لدى المصرف المركزي، بحيث تهدف السياسة النقدية التي اعتمدها إلى صون الليرة اللبنانية من أجل إرساء أسس نموّ إقتصادي وإجتماعي مستدام.

وهنا تقتضي الأمانة التذكير، بأن الحكومات المتعاقبة، أقرّت في بياناتها الوزارية كافة التي كانت تحظى بتأييد المجلس النيابي وثقته، إلتزامها بتثبيت سعر صرف الليرة، وألزمت مصرف لبنان بتنفيذ هذا التعهّد، ما أدى الى إستنزاف جزء من الاحتياطي لهذا الغرض.

ومن هنا، فإنّه لا يمكن تحميل مسؤولية ما حصل للحاكم فقط، فهو كان ملزماً بتنفيذ سياسات متمثلة في تشريعات تصدر عن البرلمان، أو مراسيم وزارية تصدر عن الحكومة وبإرادة سياسية عليا.

كذلك، يجب عدم الاسقاط من الحسابات، أنّ السلطة السياسية أمعنت وعلى مدى 30 سنة في إصدار التشريعات، التي تلزم مصرف لبنان بإقراض الدولة، من خلال القوانين التي كان يصدرها البرلمان اللبناني ولا يزال، وهو على وعي بأنه مشهود لها بالفساد والهدر والمحاصصة والانفاق السياسي غير المجدي.

إنخرط سلامة منذ العام 2016 وبغطاء سياسي، في هندسات مالية هدفت إلى الحفاظ على قيمة الليرة ورفع إحتياطي المصرف المركزي ورسملة المصارف، إلا أنّ جميع إجراءاته إنهارت في نهاية 2019 مع دخول لبنان في نفق الأزمة الاقتصادية.

الهندسات المالية كانت تهدف الى شراء الوقت، في ظل عدم استعداد الطبقة السياسية الفاسدة لتنفيذ أيّ برامج إصلاحية، وفي ظل الصراع السياسي الحاد في البلد، إذ أنّ الهندسات المالية هدفت الى تأجيل الإنفجار ولكنه وقع وبكلفةٍ أعلى.

إنّ حاكم مصرف لبنان، الذي صنّفه المراقبون بأنّه أقوى من حكاّم لبنان، كان يحظى بغطاء سياسي من كل الطبقة السياسية، ومن جهات إقليمية ودولية نافذة، فضلاً عن المنظمات المالية والنقدية الدولية، جعلت منه حاكماً مطلق الصلاحيات في سياسة لبنان النقدية، مقابل تقديم الخدمات المالية والمصرفية للطغمة السياسية الحاكمة، بحيث كان يطلق عليه لقب “الصندوق الأسود”.

وهذا ما يفسر التمديد لولايته على مدى ثلاثين عاماً، ارتكب خلالها، لا سيما في السنوات الأخيرة، الكثير من الأخطاء، وخالف مهمات البنك المركزي، التي تنصّ على توفير السيولة بالكلفة المناسبة لحفز الاستثمار المنتج، وأخفق في السيطرة على التضخّم، كما أخفق مؤخراً في المحافظة على سلامة المصارف اللبنانية وعلى أموال المودعين.

تراكم هذه الأخطاء المميتة، المقرونة بالانهيار المالي والاقتصادي، حوّل سلامة منذ نهاية العام 2019 الى أحد أبرز المُدانين عن الأزمة المالية التي يمرّ بها لبنان، اذ وجد نفسه محور تحقيقات قضائية لبنانية وأوروبية بتهم مالية عدة، وخضع لإستجواب دقيق ومركّز في بيروت في شهر آذار 2023، من قضاة أوروبيين وتحت إشراف القضاء اللبناني، بحيث وجّهت إليه مئات الأسئلة التي تركّزت معظمها على عمليات تبييض أموال في مصارف أوروبية، إلى أن أصدرت بحقه، بعد سلسلة من التحقيقات التي إستمرت لأشهر، قاضية التحقيق الفرنسية أود بوروزي، مذكرة توقيف، بعدما تغيّب عن جلسة استجواب حددت له في باريس بتاريخ 16 أيار الجاري، وذلك في إطار تحقيقات تجريها فرنسا، حول مصدر ثروته وشبهات غسيل أموال قام بها على أراضيها.

إزاء ما بلغته الأمور، أصيبت الطبقة السياسية بحالة إرباك وقلق، ليس حرصاً على موقع الحاكم، ولا خوفاً من المزيد من التدهور والانهيار المالي، بل خوفاً من إمكان أن يقدم رياض سلامة على كشف ما يختزنه “صندوقه الأسود” من فضائح مالية تطال كلّ الرؤوس السياسية الكبيرة، في حال تم القبض عليه وتسليمه الى القضاء الفرنسي!

وهذا ما لوّح به الحاكم خلال إطلالته المتلفزة التي ظهر فيها متماسكاً ومتمالكاً أعصابه بكل هدوء، عندما طالب بمحاكمة السياسيين قبل أن يحاكم هو.

هل يجرؤ الحكام على التخلي عن حاكم مصرف لبنان، والانقلاب عليه؟ علماً أنه في حال عدم تنفيذ المذكرة، يخشون العقوبات الدولية التي ستطالهم.

شارك المقال