الوصاية السورية إلى غير رجعة!

اكرم البني
اكرم البني

لم تقتصر مواقف بعض رجالات النظام السوري على التشفي والشماتة، مما يعانيه لبنان في ظل الأزمة العميقة سياسياً واقتصادياً التي يمر بها، وإنما امتدت لإثارة أوهام ورغبات مدفونة باستعادة النفوذ والوصاية على هذا البلد، تحدوها أوهام مماثلة لجماعات وأحزاب لبنانية لم تخرج من معطف النظام السوري وحافظت على روابط متعددة مع أجهزته، وتستقوي بما حققه الأخير وحلفاؤه من تقدم عسكري على حساب جماعات المعارضة.

صحيح أن شهية النظام السوري حاضرة دائماً لالتهام لبنان، لكن الصحيح أيضاً أنه لن يحظى بعد اليوم بذاك الغطاء الدولي الذي مكنه من تسويغ نفوذه، فلم يعد ثمة خطر اسمه المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية شجع الدول الغربية على منح نظام دمشق الموافقة على دخول قواته إلى لبنان عام 1976، كما لن يتكرر التفهم الأميركي الضمني لاستمرار وصاية السلطة السورية على لبنان (اتفاقا مورفي 1988 والطائف 1989) تعويضاً لتناغمها المثير مع السياسة الأميركية في المنطقة بينما كان المعسكر الاشتراكي آيل إلى التفكك. وأيضاً لن يكون هناك ضوء أميركي أخضر كي يجتاح جيشها بيروت الشرقية عام 1990 ثمناً لموقفها من حرب الخليج الثانية وانضمامها نهاراً وجهاراً، وبالتعارض مع شعاراتها القومية، كطرف إلى التحالف الدولي لإخراج صدام حسين من الكويت.

من جهة أخرى، إذا كان ثمة من يرى فرصة لعودة نفوذ النظام السوري إلى لبنان من البوابة الإيرانية رداً لـ”جميل” دوره في منح طهران و”حزب الله” الفرصة ليتمكنا من فرض وصايتهما الخاصة على لبنان وتقرير مصيره، فإنه لا يلحظ انعدام حاجة طهران لهذا النفوذ اليوم ما دام سلاح “حزب الله” حاضراً، وباتت لديه القدرة الذاتية على تهديد وابتزاز هيئات المجتمع ومؤسسات الدولة ومحاصرتها وإخضاعها، كما لا يلحظ بعض وجوه التباين النسبي في المصالح والحسابات بين دمشق وطهران، وأيضاً بين “حزب الله” والنظام السوري. ولنتذكر، مثلاً، التحفظات والامتعاضات التي أثارها غير مسؤول إيراني عن لامبالاة نظام دمشق تجاه الغارات الإسرائيلية على مواقع الحرس الثوري وميليشيا “حزب الله”، وتكرار تمنينه بأن طهران وميليشياتها هي من أنقذه ومنع إسقاطه.

ويبقى الأهم، هو حالة الإنهاك والارتهان عسكرياً وأمنياً واقتصادياً التي يعاني منها النظام، ما يعني ضعف قوى القمع والإرهاب التي عادة ما يتوسلها لمد نفوذه وفرض هيمنته. فالعاجز عن ضمان سيطرته على سورية هو أعجز على لبنان، ويزيد الأمر تعقيداً ما تراكم في نفوس فئات واسعة من اللبنانيين من نبذ ورفض للوصاية السورية التي خبروها جيداً وعانوا منها طويلاً ولديهم من المظالم والذكريات المؤلمة معها ما يكفي لحضهم على مواجهتها، من دون أن يلغي ذلك التحذير من نهج سلطوي عتيق عادة ما يستسهل استضعاف لبنان والتدخل بشؤونه وإثارة ما يمكن من المشكلات فيه، غالباً لتحويل الأنظار عن ارتكاباته في الداخل السوري وعمق أزماته المتفاقمة.

يتفق الكثيرون على أن السلطة السورية نجحت، خلال العقود الأخيرة من القرن الفائت، في نقل البلاد من ساحة نزاع وملعب لمشاريع الآخرين واختباراتهم إلى لاعب رئيس في المنطقة، وبات لها نفوذ ودور يتجاوزان حدودها في ملفات عديدة، وخاصة لبنان، حتى صار نظام دمشق أشبه بقبلة للنخب اللبنانية، عنده الحل والربط، وعلى يده تقرر النتائج وشروط معالجة أي حدث أو توتر، لكن الجديد أن معظم معالم تلك الصورة قد اختفت اليوم وتغيرت الأوزان والمواقف والاصطفافات، ما يجعل الإشارات عن عودة النفوذ والوصاية السورية إلى لبنان مجرد أضغاث أحلام، وقد بتنا نقف أمام صورة جديدة لسوريا وهي تئن تحت الخراب والدمار وأعداد ما فتئت تزداد من الضحايا والمعتقلين والمفقودين والمشردين، تحدوها استباحة غير مسبوقة لوطن استسهلت أطراف دولية وإقليمية العبث بمكوناته ومقدراته وتوظيفه كورقة لتحسين الموقع واستنزاف الآخر.

بلا شك، ساهمت ثورة السوريين ضد الظلم والتمييز والفساد في إشغال النظام عن أدواره الإقليمية وخاصة في لبنان، ودفعته للالتفات إلى همومه الداخلية، لكن انحسار نفوذ النظام في المنطقة، لمن يحلو له تحميل المسؤولية لثورة السوريين، كان سابقاً لها، ربطاً بتداعيات الاحتلال الأميركي للعراق ونجاح الحراك اللبناني في تسريع انسحاب الجيش السوري، وربطاً بتقدم مصلحة غربية وعربية في تخليص النظام من دور إقليمي عانوا منه كثيراً، وأيضاً بتنامي حصة النفوذ الإيراني في المشرق العربي على حساب حليفه السوري، لكن يبقى السبب الأهم هو النهج العقيم للسلطة السورية في تأكيد دورها وفرض هيمنتها إقليمياً، وإصرارها على الأساليب الأمنية ومنطق القوة والغلبة في إنتاج القوى والمواقع على حساب صحة الوضع الداخلي وعافيته.

أخيراً، إذ يدرك السوريون مدى المسؤولية التي يتحملها النظام في ما حل بهم حين توغل إلى نهاية الشوط في سفك الدماء وتدمير البلاد وتحطيم مقدراتها، وفتح الباب واسعاً لاستجرار أي دعم خارجي يضمن بقاءه وامتيازاته، بما في ذلك استيلاد ما أمكنه من قوى التطرف الإسلاموي لتشوية الثورة السورية وعزلها، فهم باتوا يدركون أيضاً أن لا مصلحة لهم في التدخل بشؤون الآخرين واللعب بأوراق النفوذ الإقليمي التي كلفتهم الكثير، ومكنت الاستبداد من خنق أرواحهم وإجهاض أبسط أحلامهم.

شارك المقال