مذكرة توقيف سلامة إلى القضاء… لشراء الوقت!

زياد سامي عيتاني

قرّرت السلطة السياسية الهروب بعيداً إلى الأمام في ملف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، من خلال ترك البت فيه للقضاء اللبناني، حتى يأخذ ما يحتاجه من الوقت للنظر به، وذلك بعدما دخلت قضية ملاحقته منعطفاً جديداً، في أعقاب تسلم لبنان من الانتربول الدولي نسخة من “النشرة الحمراء” التي تطلب توقيفه لصالح القضاء الفرنسي، إذ بات قانوناً مطلوباً توقيفه في جميع الدول.

وعليه، فإن القضاء اللبناني ملزم بالتعامل مع “النشرة الحمراء”، وإعطاء تقارير عن الاجراءات القضائية المتخذة، وذلك تنفيذاً لبنود الاتفاقية الموقعة بين لبنان ومنظمة الانتربول الدولي.

جاء موقف السلطة السياسية بالتحايل القانوني (!) على المذكرة، بعد أن عقد رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي لقاءً تشاورياً مع الوزراء (غير رسمي) الاثنين الماضي، خُصِّصَ للبحث في قضية سلامة، والمذكرة الصادرة بحقه، وللوقوف على مواقف الوزراء الذين يمثلون مرجعياتهم السياسية من القضية، وتداعيات القرار على لبنان من الجوانب كافة.

وكما كان متوقعاً، إنقسمت الآراء بين مؤيد لاقالته ورافض لها، بالنظر إلى إيجابيات الخطوة وسلبياتها، مع حدوث بلبلة داخل الاجتماع، بين من يفضل أن يُقال أو أن يتنحّى بنفسه.

وهذا التوجه، لم يكن نابعاً من حرص السلطة السياسية على إستقلالية القرار، بل لتجنب تحمل مجلس الوزراء (صاحب الصلاحية) مسؤولية إقالة الحاكم، الذي على ما يبدو لا يزال يحظى بغطاء الطبقة السياسية الحاكمة، وهو الغطاء نفسه الذي أبقاه وما زال في منصبه، على الرغم من التحذيرات الاقتصادية من خطورة بقائه في منصبه على النقد الوطني والنظام المالي وتعاملات لبنان مع المصارف الخارجية والجهات الدولية المانحة!

ويتحصّن أصحاب الرأي (القرار) بعدم إمكان إقالة سلامة، لأن وضعه القانوني تحميه المادة 19 من قانون النقد والتسليف التي جاء فيها “فيما عدا حالة الاستقالة الاختيارية لا يمكن إقالة الحاكم من وظيفته إلا لعجز صحي مثبت بحسب الأصول أو لإخلال بواجبات وظيفته، في ما عناه الفصل الأول من الباب الثالث من قانون العقوبات، أو لمخالفة أحكام الباب 20، أو لخطأ فادح في تسيير الأعمال”.

وبناءً عليه، فإن السلطة السياسية لن تسلم سلامة، الذي يحمل أيضاً الجنسية الفرنسية، إلى القضاء الفرنسي، بحجة التنازع الايجابي للجنسيات، وأفضلية القضاء اللبناني على الفرنسي، وعملاً بأن لبنان لا يسلّم رعاياه (!) وهو ما حصل قبلاً مع رجل الأعمال كارلوس غصن.

ومن المعروف أيضاً في هذا السياق، أنه لا يتم تسليم المتهمين إلا بعد صدور مرسوم من الحكومة اللبنانية. وهذا ما لن يحصل، في ظل إصرار السلطة السياسية على توفير الحماية السياسية والقضائية لسلامة، خشية على نفسها من أن يكشف ما في “خزائن مصرف لبنان” من فضائح مالية بحقها، تجعلها شريكة معه في جريمة الانهيار المالي والاقتصادي.

يتضح من خلال هذا المسار، إتفاق أركان السلطة الحاكمة على قذف القضية إلى القضاء (الطيع بيدهم) في ظل ما يعتريه من خلافات وإنقسامات داخلية، لاتخاذ الاجراء الذي يراه مناسباً بشأن سلامة (وفقاً لمآربهم)، بما يبقيهم خارج المساءلة القانونية، وسط الشكوك بأن يحقق القضاء (ذو التركيبة السياسية، والمسخر خدمة لمصالحها) بجدية مع سلامة.

هذا “المخرج” السياسي – القضائي سوف يعطي سلامة فرصة إضافية لمزيد من شراء الوقت إلى أن تنتهي ولايته، من خلال تأكيده العزم على الطعن بهذا القرار الذي يشكل مخالفة للقوانين، مشيراً إلى أن التحقيق الفرنسي ضرب مبدأً جوهرياً يتعلق بسرية التحقيقات، وهو ما ظهر من خلال حصول الوكالات الصحافية على وثائق التحقيق السرية، كما أن هذه الوكالات تأخذ علماً مسبقاً بنوايا المحققين والقضاة (بحسب ما صرح به).

وما دفع السلطة السياسية إلى هذا الخيار (بغض النظر عن المواقف المعلنة ومطالبتها سلامة بالاستقالة) الذي يوفر الحماية لها ولحاكم “المركزي”، الاستقرار على الصعيد النقدي والمالي والمصرفي في البلاد بعد صدور المذكرة، في حين حافظ سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية على إستقراره أيضاً، عند مستوى 94 ألفاً لليرة لكل دولار.

على الرغم من إستيعاب السوق المحلية “تخريجة” السلطة السياسية لصدمة مذكرة توقيف سلامة، من دون تسجيل أي إرتدادات سلبية، إلا أن هناك إحتمالاً كبيراً في أن تدفع مذكرة التوقيف الدولية، البنوك المراسلة إلى التوقف عن التعامل مع لبنان، وهو الأمر الذي ستكون له إرتدادات خطيرة على الصعيد الاقتصادي، الذي يعاني ما يعانيه من إنهيار وإنكماش، لأن ذلك سيؤدي إلى عزل لبنان عن النظام المالي العالمي، وهو أمر لا يمكن تحمل تبعاته وتداعياته.

فهل تضحي الطغمة السياسية بما تبقى من النقد والاقتصاد الوطني، حتى تحمي رؤوسها من مقصلة المحاكمة؟

شارك المقال