سودان…؟ بل سودانان وأكثر

محمد علي فرحات

أصبحت المأساة السودانية خبراً عادياً لا يحظى باهتمام يذكر لدى الرأي العام العربي والاسلامي والعالمي، وقلما يأبه المراقبون بوعود قائد الجيش وقائد الدعم السريع بأنهما سيسلمان الحكم بعد الأزمة الحالية الى شخصيات مدنية منتخبة. لقد تواطأ القائدان من دون بيان معلن على ضرب الحراك المدني الذي أسقط الحكم العسكري لعمر حسن البشير، ونجحا في ذلك الى حد أنهما عملا على وراثة حكم البشير، ويتصارعان اليوم على تقسيم تركة الرجل الذي اشتهر بالاستباد والتلويح بعصا الماريشالية وبالرقص المعبر عن سيطرة وزهو.

ولو أن السودان بلد محتل لكان جيش الاحتلال الأجنبي مسؤولاً عن شعبه الخاضع للاحتلال أو المتمرد عليه. هكذا رأينا سلطات الاحتلال تقيم بالتوازي مع سيطرتها حكومات وبرلمانات وتبرز من خلال ذلك رؤساء يقبلون بها. ولكن، في بلد يعتبر نفسه ويعتبره العالم مستقلاً نرى جيشين يتصارعان ولا مكان للشعب، وقد ملّ الناس سماع أخبار عن حروب مدمرة بينهما، فيما يحصل الضباط والجنود هنا وهناك على رواتبهم من خزينة واحدة ومن ثروة الشعب من ذهب وغيره، يقتنصها هذا القائد أو ذاك ويعتبرها أشبه بملك شخصي لا يحاسبه عليه أحد. ولا أحد يعلم حقاً كم يرتكب القائدان وأعوانهما من مخالفات تبدأ من تدمير أملاك الناس وقطع أرزاقهم.

وما يحدث في السودان شهادة ساطعة على أن الجيوش في معظم العالم الثالث البائس هي عدوة للشعوب وسارقة لأرزاقها ومانعة لتطورها وقامعة لآرائها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وننقل في ما يلي كلاماً للكاتب السوداني الطيب صالح رحمه الله كان قاله في مشافهة أثناء ندوة في الولايات المتحدة، والكلام يدور حول الديموقراطية التي عمل العسكريون السودانيون على اغتيالها بدأب من نظام عسكري الى آخر يشبهه:

“لا بد من نظام ديموقراطي، ونحن طبيعتنا في السودان أصلها طبيعة ديموقراطية. لا تصدق الذين يقولون ان الشعب غير مؤهل للديموقراطية. ليس من شعب عربي أو غير عربي غير مؤهل للديموقراطية. وتجد الرجل الأمي في العالم العربي يقوم بمسؤوليات جسام في تربية أولاده وفي اصلاح حاله واتخاذ قرارات معيشية مهمة جداً، فكيف يكون هذا الانسان غير قادر على القول ان هذا يصلح وهذا لا يصلح كنائب في البرلمان؟ كلام فارغ، لأنهم يريدون أن يستأثروا بالسلطة ويوهمون الناس بأحلام ليس لها أساس من الواقع ويحجرون الرأي، وبعد ذلك لا يصلون الى حل. لو أن الديموقراطية استمرت في السودان بعد الاستقلال الى يومنا هذا، لكنا أولاً، في تقديري المتواضع، أصبحنا مثلاً ونموذجاً في منطقتنا للحكم الديموقراطي، لأن شعبنا لديه استعداد لممارسة الديموقراطية. وثانياً، كنا حللنا مشكلة الجنوب. كنا حللناها اما بوحدة حقيقية أو بفصل الجنوب بالتراضي. لكن، في كل مرة، كان يأتينا حكم عسكري ويقول: نحن سنحل مشكلة الجنوب ويعملون على زج الجيش النظامي في غابات ويفشلون في كل مرة. لا بد من حرية الفكر وأن يقول كل انسان بأمانة كيف يرى الأشياء. عندها نصل الى حل، وأظن أن الأمة العربية في حالة كهذه”.

كلام الطيب صالح قاله قبل انفصال الجنوب، وقد عملت الأنظمة العسكرية في السودان على هذا الانفصال أكثر مما عمل أهل السودان الساعون اليه. نذكر هنا استبداد جعفر نميري الذي أعدم أبرز السياسيين الليبراليين واليساريين كما أعدم المصلحين الاسلاميين، وافتتح الحملات العسكرية الفاشلة على جنوب السودان لفرض نمط حكم لا يريده شعب الجنوب. وتبعه في ذلك الحكام العسكريون الآخرون وفي مقدمهم عمر حسن البشير، وبلغ الأمر بالبشير حدّ فرض نظام اسلامي على شعب الجنوب غير المسلم والمؤلف من جماعات مسيحية وجماعات ارواحية (أي وثنية بالتعبير السائد والذين يقدسون مظاهر الطبيعة وكائناتها، وهم قوم مسالمون).

وقد فرح البشير لانفصال السودان لكونه المشارك الأساس في هذا الأمر. وانصرف الى اضطهاد باقي الشعب السوداني بغالبيته المسلمة حتى صارت عصاه ورقصته السخيفة نموذجاً لالغاء مدنيي السودان ومدنيتهم التي شهدت وتشهد لها نخبتهم المنتشرة في البلاد العربية والعالم. ولم يحد البرهان وجيشه وحميدتي ومسلحو الدعم السريع عن طريق مأساة مركبة للشعب السوداني، تفضي عملياً الى سلطتين عسكريتين متنازعتين تمهيداً لاعتراف كل منهما بحدود سلطة الآخر. ولن ينقضي الأمر بسودانين يضافان الى السودان الثالث المنفصل في الجنوب، فالأمور مرشحة للتدحرج نحو مزيد من الانقسام. وداعاً للسودان الذي نعرفه ويعرفه العالم، ولا أهلاً ولا سهلاً لسودانات كثيرة على مقياس العسكر والعصبيات المحلية البائسة.

شارك المقال