الديموقراطية التوافقية تتحول الى نهج تعطيلي إقصائي

محمد شمس الدين

في كل مرة تشتد فيها الأزمة السياسية في لبنان، تصدح الأصوات التي تلعن الديموقراطية التوافقية التي يعتمدها لبنان في نظام حكمه، وتبدأ المطالبة بالتوجه إلى ديموقراطية حقيقية تحكم فيها الأكثرية. والغريب في الأمر أن من يلعن هذا المبدأ هو نفسه من يرفض مبدأ الأغلبية العددية، في تناقض فاضح في مواقفه. ومن يتحدثون عن ضرورة الغاء الديموقراطية التوافقية، يظهرونها وكأنها غريبة أو حالة شاذة في عالم السياسة، أو أن لبنان وحده من يعتمدها، ويعطون أمثلة على دول عظمى تطغى فيها الديموقراطية. فهل فعلاً الديموقراطية التوافقية سيئة إلى هذا الحد؟

بداية، تعريف الديموقراطية عموماً هو حكومة الشعب من الشعب ومن أجل الشعب. وبالتالي تكون دولة ما ديموقراطية حين يكون المحكومون فيها حكاماً في الوقت نفسه، أو بالأحرى عندما يساهم العدد الأكبر من المحكومين مباشرة في ممارسة السلطة.

أما الديموقراطية التوافقية فهي تتشارك مع الديموقراطية في مفهومها العام أن الشعب هو مصدر السلطات، إلا أنها تتباين معها في بعض النقاط، فالتنافس من أجل الحصول على الأكثرية التي تمكن الجهة التي حصلت عليها من الوصول إلى السلطة هو سمة الديموقراطية التمثيلية، أما التوافقية فهي سمة المجتمعات التي يكون طابعها الانقسام ولذلك لا تكتفي باعتماد الأغلبية كمعيار وحيد للحكم، بل تضيف اليه معياراً آخر، هو التوافق، الذي يضمن إشراك الأقلية المنتخبة في الحكم. وكذلك فإن الديموقراطية التمثيلية لا تراعي الفوارق الاثنية أو العرقية لتوزيع المناصب والوظائف، بينما التوافقية تراعي هذه الفوارق، وتوزع المناصب نسبياً ليتم تمثيل الأقليات تبعاً لحجمها داخل المجتمع.

عضو كتلة “التنمية والتحرير” النائب محمد خواجة اعتبر في حديث لموقع “لبنان الكبير” أن تركيبة لبنان الطائفية تفرض في كثير من الأحيان التوافق والتسويات، لافتاً إلى أن “نظامنا ديموقراطي ولكن حياتنا السياسية طائفية، وهذا يسبب الخلل”. وقال: “إذا لم نتجه إلى دولة مدنية حقيقية خارج المفهوم الطائفي، فسنبقى محكومين بالتوافق والتسويات، وبالتالي لا حياة لهذا البلد، وها قد وصلنا الى الدرك الأسفل”.

أما النائب ملحم خلف فرأى أن “الديموقراطية نُحرت تحت مسمى التوافق، ذهبنا إلى عدم احترام الدستور، وضرب انتظام الحياة العامة، ووصلنا إلى كل ما هو مخالف لبوصلة تدير الدولة”.

ولفت إلى أن “مصطلح التوافق، بالمفهوم، هو في الاطار الإيجابي، أما أن يتحول الى نهج تعطيلي تدميري إقصائي، فهذه مصيبة”، مشيراً الى أن “اتفاق الطائف عندما وضع كان يجب أخذه في الاطار الايجابي، ولكن عندما يكون هناك سوء نية نصل إلى ما وصلنا إليه اليوم”.

لا يعرف كثيرون أن الديموقراطية التوافقية نشأت في دول غربية مثل هولندا وبلجيكا وسويسرا، وانتقلت بعدها الى المجتمعات النامية، وسبب اللجوء إليها كان المجتمعات التعددية التي تتسم بضعف الانسجام بين مكوناتها، وقد اعتبرت بعض دول العالم الثالث أنها قد تكون حلاً لمشكلة الطائفية التي تعاني منها. وعلى الرغم من الاعتقاد السائد، إلا أن الديموقراطية التوافقية نجحت في مرحلة من المراحل في لبنان، وقد استطاعت أن تجمع التعدديات، وتشركها جميعاً في الحكم، بل الى يومنا هذا يرى البعض أنه في ظل غياب التطور المجتمعي والوعي السياسي اللبناني، لا يمكن أن يحكم لبنان إلا بالتوافق، بينما يعتبر آخرون أنها أصبحت لعنة في النظام اللبناني، ويجب الاتجاه إلى ديموقراطية تمثيلية فقط، ولكن هذا غير ممكن في ظل اختلال ديموغرافي كبير بين الطوائف. لذلك، من المستغرب أن يكون من يطالب بالديموقراطية التمثيلية هو بعض القوى المسيحية، كون ذلك يضرها ضرراً مباشراً، إلا أن مطالبتها بذلك تقف عند حد الشعبوية، فلا يمكن أن تطالب بها، وفي الوقت نفسه ترفض قانون انتخاب مفصل على أساس التمثيل الطائفي، ولا يمكن أن تكون حقاً من دعاة الديموقراطية التمثيلية، وترفض أن يكون هناك رئيس للجمهورية من دون أن يحظى بما يسمى “الغطاء المسيحي”. هذا تناقض فاضح في الخطاب، ويظهر أن المطالبات بالديموقراطية التمثيلية ما هي إلا مسرحيات شعبوية.

ولكن الديموقراطية التوافقية لها مساوئ عديدة، تحديداً إذا رفض السياسيون الحوار للاتفاق على حل، فحق “الفيتو” الممنوح لمكونات المجتمع التوافقي يعرقل اتخاذ القرارات بطريقة سريعة، ما يؤدي إلى الجمود والتعطيل في بعض الحالات. وكذلك، فإنها تتيح المجال للتدخل الخارجي في الدول التعددية، ما يؤدي إلى المزيد من التشرذم والانقسام. وهذا ما نشهده اليوم في لبنان، حالة تعطيل فاجرة، تضرب البلد في الصميم، ولا يمكن الوصول إلى حل إلا عبر التوافق. فلا يمكن أن يصل رئيس جمهورية وهناك فيتو شيعي عليه مثلاً، وكذلك بوجود فيتو مسيحي عليه، والحل الأنسب هو أن تجتمع القوى السياسية لتناقش برامجها وهواجسها، والخروج بصيغة توافقية لا يشعر فيها أحد بالغبن.

وفي ظل بقاء العقلية اللبنانية نفسها لا يمكن أن يحكم لبنان إلا بالتوافق بين مكوناته، وقد شهد تجربة ناجحة في ذلك لفترة من الفترات قبل أن تبدأ الأزمة من جديد. واليوم الصعود على شجرة التصعيد ورفض الحوار، سيؤديان في نهاية الأمر إلى خروج المسألة من يد اللبنانيين، وستأتي دولة إقليمية أو أكثر، وتطرح مؤتمراً من أجل حل الأزمة، سيفرض الخيارات على اللبنانيين. وبغض النظر عن أنه سيكون حلاً مؤقتاً إلا أنه يعني مجدداً أن اللبنانيين لا يستطيعون حكم أنفسهم، ويجب دائماً وضع وصي أو أكثر على بلدهم، كي يسير الحكم فيه. وفي ظل التطورات في المنطقة، والرؤية السعودية للشرق الأوسط مستقبلاً، قد تطول الأزمة في لبنان قليلاً، ولكن في نهاية الأمر سيحصل تدخل خارجي، تكون جميع القوى السياسية في لبنان رابحة فيه، والخاسر الشعب اللبناني.

شارك المقال