بعيداً عن لغة الأرقام، وكيفية توزيع أصوات النواب خلال التئام الهيئة العامة لمجلس النواب، وعلى الرغم من أن ما آلت إليه الجلسة كان متوقعاً، لجهة اللجوء إلى “تكتيك” تعطيل نصاب الدورة الثانية، بعدما توحدت “المعارضات” على ترشيح الوزير الأسبق جهاد أزعور، فإن ما يستوجب ويستحق التوقف عنده، هو الانشطار الوطني على أساس طائفي بين مكونين أساسيين، الذي بلغته البلاد، من جراء المواجهة المكشوفة (من دون أدنى خجل وطني) بين “الثنائيتين” الشيعية والمارونية!
هذه السابقة الخطيرة، التي لم يعرفها لبنان منذ توقف الحرب الأهلية، تنطوي على خطر حقيقي، يهدد تماسك الصيغة اللبنانية التعددية، على قاعدة المناصفة، كما نصّ إتفاق “الطائف”، وذلك بفعل إمعان الفريقين في تكريس التباعد السياسي، وقطع الطريق أمام أي إمكان لتقريب المسافات، بهدف التوصل إلى تسوية متوازنة، أو الذهاب نحو الممارسة الديموقراطية، بأن تأخذ العملية الانتخابية مسارها الدستوري، بعيداً عن ألاعيب التعطيل.
والأخطر من ذلك، أن الثنائيتين المهزومتين ذاتياً، خرجتا من الجلسة، مروّجتين لانتصارين وهميين، في حين أن الخاسر الحقيقي هو لبنان، لأنه أضاع للمرة الـ12، فرصة أن يكون له رئيس للجمهورية، في وقت باب الانهيار مشرّع على مصراعيه، ناهشاً ما تبقى من رمق الاقتصاد اللبناني، جراء تعطيل البلاد، وترك اللبنانيين يرزحون تحت المعاناة والفقر اللذين ينهشانهم.
المواجهة بين الثنائيتين الشيعية والمارونية وحلفائهما، تشكل ظاهرة إنشطار وطني طائفي مقلق يتحمل مسؤوليته كلا المعسكرين، فضلاً عن سوء إستخدام الدستور، من خلال تعسفهما في استعمال هرطقاتهما السياسية وعصبيتهما الفئوية، واللجوء إلى سلاح التعطيل، أو التلويح بالتقسيم بمختلف مسمياته التمويهية.
إذاً، نحن أمام إنقسام داخلي يزداد تفاقماً، بحيث أن الوضع الراهن أكثر خطورة وقلقاً من حقبة إصطفاف 8 و14 آذار، نظراً الى الطابع الطائفي للانقسام الحالي، لا سيما مع تحول الجلسة الأخيرة إلى ساحة إختبار للأرقام والأصوات، ونصب المتاريس بين “الثنائيتين”، والعودة إلى الجلسة رقم صفر.
ما آل إليه مسار الجلسة الأخيرة، يؤكد بما لا يقبل الشك، أن الفريقين من خلال ممارساتهما لم يبلغا سن “الرشد” السياسي (!) ولا يتمتعان بالقدر الكافي من أدنى مواصفات الأخلاقيات الوطنية، ما يجعلهما عاجزين عن إيصال أي مرشح إلى سدة الرئاسة، لاصرارهما على البقاء مأسورين لنزواتهما الطائفية ونزقهما المذهبي، خارج مفاهيم الوحدة الوطنية والمسؤولية السياسية.
وهذا ما دفع عواصم القرار إلى التعبير عن خيبة أملها من الأداء النيابي غير المسؤول. فقد عبّر وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اللورد طارق أحمد عن “إحباطه لفشل مجلس النواب اللبناني مجدداً في انتخاب رئيس للجمهورية”، معتبراً أن “عرقلة التصويت على إختيار رئيس جديد تؤخر حل الأزمة الاقتصادية في لبنان”.
كذلك، أعربت الخارجية الأميركية عن إنزعاجها وقلقها لمغادرة نواب مبنى البرلمان اللبناني لإفشال التصويت على انتخاب رئيس للجمهورية. وشددت على أن “زعماء لبنان ونخبته يجب أن يتوقفوا عن تقديم مصالحهم وطموحاتهم على مصالح الشعب”.
من جهتها، أكدت المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان يوانا فرونتسكا، أن “قادة لبنان وأعضاء البرلمان يحتاجون إلى إتخاذ خطوات عاجلة لضمان إنتخاب رئيس للبلاد لصالح بلدهم وشعبهم”، معتبرة أن “الفراغ المطول يقوّض الممارسات الديموقراطية في لبنان ويزيد من تأخير الاصلاحات والحلول اللازمة التي طال إنتظارها لاعادة البلاد إلى مسار التعافي”.
بعدما أثبتت الطبقة السياسية الحاكمة والمتحكمة عجزها وفشلها في إنتخاب رئيس للجمهورية، محتفلة بما أحرزه مرشحَي “الثنائيتين” من أصوات هي أقرب بلغة النصاب الدستوري الى “الصفر المكعب”، فإن الأنظار شاخصة إلى باريس، لما سيحمله لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي يعوّل عليه لبنانياً، نظراً الى تأثير الرجلين على الداخل اللبناني.
فهل تحمل زيارة الموفد الفرنسي الجديد جان إيف لودريان إلى لبنان بشائر “تسوية عاجلة” للأزمة اللبنانية؟