لبنان الحضارة والانفتاح

السيد محمد علي الحسيني

عندما نتحدث عن لبنان فإننا نتحدث عن بلد عريق تربعت فيه مختلف الحضارات بدءاً من العهد الفينيقي مروراً بالآشوريين والفرس والإغريق والرومان والعرب إلى الأتراك والفرنسيين، وكل الثقافات انجذبت إليه بسبب موقعه الجغرافي والاستراتيجي وطبيعة شعبه، فترسخت فيه القيم الانسانية نتيجة هذا التنوع الذي شكل لوحة فسيفسائية بمختلف الألوان التي جعلت هذا البلد بلداً استثنائياً مهماً على الرغم من صغر حجمه، لكنه جمع مختلف الأطياف والأديان لتتربع على أرضه وترابه تأكل من خيراته وتتنفس هواءه وهل مثل هوى لبنان هوى؟ ولأنه كذلك، فقد مر تاريخه، ماضيه وحاضره بمحن وتحديات كلما زادت سوءاً أنبأت بالفرج تماماً كالليل الحالك الذي كلما ازداد ظلمة تنبأنا باقتراب الصبح، أليس الصبح بقريب؟

المحن سنن الأرض والحضارة تبنى بالأمل والمعاناة

لم تبنَ الحضارات “بكبسة زر” كما يقولون، بل تعرضت مختلف الحضارات إلى هزات وزلازل قوية، ومن الطبيعي أن تمر بمرحلة السؤدد ومرحلة الانحدار لأنها سنة الكون، فتعاقبت الحضارات على هذه الأرض وألقت ما ألقت من ثقلها وسلطتها لتستمر، لكن دوام الحال من المحال، لا شيء يبقى على حاله في هذا الكون، ولكن عندما نتأمل في لبنان نجد أن مكامن القوة مصدرها هذا الشعب العظيم الذي أينما تجده يأخذ معه هوية وثقافة أرض ومجتمع تجذر تاريخهما في أعماقنا جميعاً. لا شك في أن الهوية الحضارية محفوفة بالتحديات والبقاء يكون بوضع خطط مدروسة لتحقيق النهضة والاستمرارية، وما يمر به لبنان يحتاج إلى وقفة تأمل وتدبر لاعادة ترميمه على مختلف الأصعدة، وهنا سنضرب مثلاً يزيد من جرعة الأمل على الرغم من المعاناة، فحضارة لبنان لن تسقط طالما لهذا الوطن شعب ينبض بحبه، فمنذ عقود عاشت سنغافورة حالة من اليأس نتيجة الانهيار الاقتصادي لانفصالها عن ماليزيا، فكانت حالة الشعب متردية جداً ونسبة الفقر تجاوزت المعقول، وفي وسط هذا الظلام أوقد أحدهم شمعة أخرجت دولة وشعباً من ظلام دائم إلى نور مستمر بفضل العمل والاجتهاد والثقة المتبادلة بين الحكومة والشعب لبناء دول من لا شيء، لكن الثروة الحقيقية كان مصدرها الشعب والشعب فقط. ومن هنا يزداد الأمل على الرغم من المعاناة لأن للبنان الحضارة كل مقومات الصمود، فالشعب حاضر لخدمته والأرض غنية بثرواتها، فقط المطلوب قرار صائب يحرك الحياة ويبني صرح هذا البلد بدفع عجلة الاقتصاد والتنمية وتفعيل آليات النهضة بكل أوجهها.

لبنان.. سر البقاء الانفتاح

من أهم ما يميز الجانب الحضاري للبنان سمة لم يحظَ بها أي بلد، سمة الانفتاح على الآخر دينياً وفكرياً وثقافياً وتجارياً وديبلوماسياً، وهذا أكسبه مرونة في التعامل والافادة من مختلف الحضارات والثقافات والأديان، كما أن انفتاحه جعله قبلة للتجار عبر مختلف الأزمنة، بل شكل منطقة جذابة للسياح من مختلف بقاع الأرض وقد ساهم ذلك في انتعاش البلاد عام 2009، فشهد لبنان حينها نمواً اقتصادياً بنسبة 9%. كما لا ننسى أن انفتاح لبنان على العالم دفع المغتربين اللبنانيين الى المساهمة في بناء الدولة، من خلال الخبرات الإدارية، والمفاهيم التجارية المبتكرة والتحويلات المالية الكثيرة، ولا ننسى أن التنوع الطائفي في لبنان جعله يعيش تجربة فريدة من نوعها صحيح أنها تعرضت لبعض الهزات لكنها كانت مصدراً للإلهام والدراسة، فلبنان استطاع أن يبقى بفضل التمسك بهوية التنوع واستثمارها في الطريق الصحيح بما يخدم مصالحه وأهدافه.


*أمين عام المجلس الإسلامي العربي

شارك المقال