بين “تيتان” الأطلسي ومركب المتوسط… الأخلاق الاعلامية في ذمة المال

حسين زياد منصور

هل نطبق المعايير والقيم التي ننادي بها ونتخذ منها واجهة لتصرفاتنا وأعمالنا؟ بالتأكيد لا، بل نظهر العنصرية والتناقض في المعاملات والتغطيات الصحافية والاعلامية.

في عرض البحر المتوسط، شهدنا الأسبوع الماضي حادثاً مأساوياً، ليس الأول من نوعه، فغالباً ما تطالعنا حالات غرق زوارق ومراكب لمهاجرين غير شرعيين، متوجهين الى أوروبا، إيطاليا واليونان… أملاً بحياة أفضل. فعلى أعين اليونانيين، تركت مجموعة من الفقراء، تقارب الـ 750 شخصاً، من الجنسيات السورية والمصرية والباكستانية وغيرها أيضاً، تلقى حتفها، لتكون النتيجة المئات في عداد المفقودين، من دون أن يحرك أحد ساكناً، حتى أن وسائل الاعلام الغربية، التي تدّعي الحرية والانسانية والديموقراطية، وتحمل شعار حقوق الانسان، لم تلتفت الى هذه الكارثة، التي تتكرر بين فترة وأخرى.

اما في المحيط الأطلسي، فمعدات وآلات متطورة وكشافات تعمل ليل نهار، وعمليات البحث والانقاذ تتواصل، واستنفار لأهم القوات البحرية، من الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وفرنسا، ووسائل اعلام غربية لا تفوت لحظة لمتابعة ما يجري، لكن ما الذي حصل فعلاً؟ خمسة أشخاص فقدوا وغواصتهم السياحية “تيتان”، أثناء رحلة لاستكشاف حطام سفينة “تايتانيك” الغنية عن التعريف، والتي غرقت في نيسان من العام 1912. كل هذه التدابير والاستنفار الاعلامي، لمعرفة مصير خمسة أشخاص “اثرياء”.

إذاً بين “تيتان” الأطلسي ومركب المتوسط، تكشفت معايير الاعلام الغربي وأخلاقياته في التغطيات، ففي الوقت الذي لم يجد من خاضوا البحر المتوسط من يوصل معاناتهم وأصواتهم، كانت غواصة الأثرياء تتصدر أخبار الاعلام ومنصاته، مظهرة التناقض والتفاوت في التعاطي مع القضايا الانسانية.

المقارنة غير مكتملة الشروط

وهنا كان لا بد من طرح السؤال حول هذه الاستنسابية في التغطية الاعلامية في ما يتعلق بالحدثين، ويجيب عنه الأستاذ في علوم الاعلام والاتصال الدكتور الياس البرّاج في حديث لـ “لبنان الكبير”، بالقول: “من الناحية الاعلامية المهنية في الاعلام والصحافة دائماً الشيء المستجد يطغى على الشيء المعتاد. وللأسف هناك نظرة دونية لحقوق الانسان وللمهاجرين وللأنظمة الحاكمة لدينا، وهي التس سمحت أصلاً لهذه الظاهرة بالاستفحال والتفاقم، بما فيها النظام اللبناني، من دون أن ننسى أنه حتى يومنا هذا، لم تظهر أي نتائج تتعلق بقضية الزورق الذي غرق في طرابلس، على سبيل المثال، والعديد من العمليات تحصل من هذا النوع ولا أحد يهتم”.

ويرى أن المسؤول الأول عن هذه الظاهرة “الأنظمة العربية خصوصاً الأفريقية والنظام السوري وكل الأنظمة التي يجب تسميتها بالأنظمة الطاردة لشعوبها، نتيجة أوضاع سياسية أو سوء حال حقوق الانسان”، موضحاً أن “عمليات الغرق التي تحصل أصبحت معتادة بنظر الاعلاميين أنفسهم عندنا أو عند الغرب، لأنها تتكرر منذ عشرات السنين، حتى أننا كنا نعلق ونتكلم عنها قبل الربيع العربي، ولم يتم إيجاد أي حل لها، وبقية الأسباب التي تؤدي الى هذه الظاهرة الانسانية المخيفة، ولم يحاسب حتى الآن من يقفون خلف هذه العمليات سواء لأسباب سياسية أو من يتاجرون بها من أصحاب الزوارق ومن يسهلون هذه العمليات ومن هم في الدول التي يفترض أن تستقبل هؤلاء المهاجرين”.

ويتساءل: “الى جانب الاعلام الغربي، هل اهتم الاعلام الشرقي، الروسي أو الصيني بقضية غرق المركب الذي يضم عشرات المواطنين العرب والأفارقة؟ ومن ناحية أخرى هل موضوع الغواصة تقليدي؟ بل يعد جديداً بأبعاده السوريالية، ليس انسانياً وحسب، بمعنى أنه لم يحدث سابقاً أن اختارت مجموعة من الناس مخاطرة كهذه محفوفة بالموت”.

وبحسب البرّاج فان “الاعلام في هذه الحادثة (الغواصة) يود أن يتحدث عن كل جوانبها لأنها حصلت للمرة الأولى، فلم نشهد أي حادث مشابه بالظروف والملابسات نفسها، فيما قوارب الموت أصبحت معروفة في الاعلام، وليس في الاعلام الغربي وحسب، بل في كل الاعلام حول العالم، حتى في اعلام الشعوب التي هي ضحية هذه القوارب وما تؤدي اليه من كوارث إنسانية”.

ويشدد على وجوب “الاطلاع على جوانب القصة بأكملها، قبل الانجرار والتجييش”، معتبراً أن “ما يحصل لا يعد استنسابية، لأن الاستنسابية تكون مقارنة في الظروف والحالات نفسها، عندما يكون هناك قارب موت يضم أناساً من دولة غربية، أي غير العرب والأفارقة وأضيء عليهم بصورة استثنائية من الاعلام الغربي أو الشرقي أو العالمي عندها تسمى استنسابية. وفي هذه الحالة لا يمكن القول انها استنسابية لأن المقارنة غير مكتملة الشروط”.

ردود أفعال وتصريحات

أما الاعلامي المصري عمرو أديب فانتقد الاستنسابية والازدواجية التي تعاطت معها وسائل الاعلام الغربية في حادثتي غرق الغواصة “تيتان” وسفينة الهجرة غير الشرعية، قائلاً: “عشرة ملايين دولار اتصرفت في 4 أيام، والدنيا وقفت على رجل على البهوات الخمسة اللي كانوا على متن الغواصة تيتان رغم إن أميركا كانت عارفة إن القصة انتهت من أول يوم… شوفوا لو الحادثة دي كانت حصلت عندنا في العالم العربي كان الغرب قال إيه؟ قارن يا مؤمن بين الفلوس اللي اتصرفت علشان ينقذوا 5 أشخاص في الغواصة تيتان والمركب اللي غرقت وكان فيها 750 شخص مات منهم 500 واحد منهم 200 مصري”.

وعلقت أستاذة في جامعة “كامبردج” البريطانية على التفاوت في التغطية الاعلامية، فاعتبرت أن “حياة عدد قليل من الناس أهم من حياة الكثيرين في عالمنا، وهذا التفاوت يزداد حدة على طول الخطوط الجيوسياسية والطبقية والعرقية والطائفية، والفقراء والضعفاء وضحايا الحرب الذين يتشبثون بجوانب زورق مطاطي ليسوا محزنين بالطريقة نفسها التي ظهر فيها الرجل الأبيض الثري كمستكشف أو مغامر يذهب إلى البحر في رحلة باهظة الثمن حسب الطلب”.

أضافت: “ان القصص الاخبارية التي تنقلها وسائل الاعلام تتحدث كثيراً عن مخاطر اللاجئين وتصورهم بأنهم مهاجرون اقتصاديون جشعون أو محتالون للوصول إلى أوروبا حيث أنظمة الرفاهية، وباعتبارهم أيضاً ساذجين ومتهورين يقدمون أموالهم للمجرمين مقابل الرحلة ويخاطرون بسلامتهم في قوارب ليست صالحة للإبحار، بينما يقارن كل ذلك بأجواء البطولة والشجاعة المأساوية التي استثمرها الرجال الخمسة في الغواصة الغارقة”.

بين المتوسط والأطلسي تواطؤ غربي

كان على متن قارب الموت ما يقرب من 750 مهاجراً غالبيتهم من الدول الفقيرة، فقد منهم أكثر من 500 ومات ما يقارب 100 وأنقذ منهم 100أيضاً.

وأكد عدد من الناجين أن خفر السواحل اليوناني تسبب بغرق القارب ولم يقدم المساعدة المطلوبة، وهو ما أشارت اليه منظمة “هيومن رايتس ووتش”، بأن “الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل، وخفر السواحل اليوناني رصدوا القارب قبل ساعات من انقلابه لكن أحداً لم يتدخل في الوقت المناسب وبطريقة آمنة لإنقاذه”.

وفي الوقت نفسه، كشفت “الجزيرة. نت” من خلال تحقيق استقصائي عن تورط خفر السواحل اليوناني في مأساة غرق اللاجئين، لأن الروايات اليونانية متناقضة وغير مقنعة لكثيرين، وتتناقض مع شهادات الناجين والمنظمات الحقوقية والاغاثية والنشطاء بما في ذلك نشطاء أوروبيون ويونانيون استنكروا الرواية الرسمية.

أما غواصة “تيتان” السياحية الصغيرة فكانت تحمل 5 اشخاص، وجميعهم ماتوا، 4 منهم من الأثرياء أصحاب المليارات، الملياردير البريطاني هاميش هاردينغ ورجل الأعمال الباكستاني الأصل شهزادا داود مع ابنه سليمان وكلاهما مواطنان بريطانيان، بالاضافة إلى ستوكتون راش، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة “أوشين – جيت إكسبيديشن”، مالكة الغواصة، والمستكشف الفرنسي بول هنري نارجوليه.

في النهاية، الطرفان دفعا الى جانب حياتهما أثماناً لقاء خوض البحار، إن كان من ناحية المهاجرين الباحثين عن الأمل، والذين دفع كل منهم ما بين 5 و10 آلاف دولار بحسب بعض الناجين أو أسر الضحايا، أو “المستكشفون” وفق ما تم وصفهم، والذين دفع كل منهم 250 ألف دولار أميركي، كي يعيشوا تجربة الاقتراب من حطام سفينة “تايتانيك”.

شارك المقال