عودة فرنسا العنصرية؟

حسناء بو حرفوش

لا ترد عبارة “عنصرية” بصورة عبثية في معرض توصيف الوضع في فرنسا، بل أتت من جهة دولية، بحيث طلبت الأمم المتحدة الجمعة، من باريس “معالجة مشكلات العنصرية والتمييز في صفوف قوات الأمن”، بعد مضي 3 أيام على إقدام شرطي على قتل الفتى نائل (17 عاماً) بالرصاص أثناء عملية تدقيق مروري في نانتير قرب العاصمة باريس. وسارعت المتحدثة باسم مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان رافينا شمداساني خلال مؤتمر صحافي في جنيف الى دعوة باريس “لمعالجة مشكلات العنصرية والتمييز المتجذرة في صفوف قوات الأمن بصورة جدية”.

وفي هذا السياق، لفت مقال في موقع “إيكونوميست” بنسخته المغربية إلى “أن الشرطة الفرنسية اعتقلت 875 شخصاً في ليلة واحدة، بينهم 400 في العاصمة باريس وحدها، في أعقاب أعمال الشغب التي اجتاحت العديد من المدن في فرنسا”. واعتبر التحليل أن “رد فعل رئيس الجمهورية الفرنسية على القتل العنصري مع سبق الاصرار، والذي اكتفى بوصفه بالفعل الذي “لا يغتفر”، لم يرقَ إلى مستوى المناسبة، مذكراً بتصريح (ايمانويل) ماكرون خلال قضية كنيس الغريبة اليهودي في جزيرة جربة التونسية بحيث اتهم تونس بأنها معادية للسامية. أما في القضية الحالية حيث الضحية نائل مسلم وهو من الجنسية الجزائرية والقاتل شرطي أيضاً، هل سيصف الدولة الفرنسية بالعنصرية والمعادية للمسلمين؟ بالطبع لا!

الانجراف القمعي

ومع ذلك، يُخشى أن يلوح في الأفق انجراف قمعي يستهدف المجتمع الفرنسي الذي يضم المسلمين. وحذر زعيم حركة “La France insoumise” (أي فرنسا غير الخاضعة)، جان لوك ميلانشون، المرشح الرئاسي السابق، الحكومة من سياسة “القمعية الشاملة”. وفرض حظر تجول في مجالس البلديات التي تضم أعداداً كبيرة من المسلمين كما لم يستبعد رئيس الحكومة فرض حظر تجول في جميع أنحاء الأراضي في البلاد. ونشر 40.000 شرطي في جميع أنحاء الاقليم و5000 في منطقة باريس وحدها.

ويفسر حجم أعمال الشغب بالطبيعة العنصرية لمقتل الشاب العربي. وأكدت والدة الضحية لوسائل الاعلام الدافع وراء الجريمة، وهناك مقطع فيديو متداول على مواقع التواصل الاجتماعي يظهر سائق سيارة الاسعاف الذي يتعين عليه انتشال جثة الشاب يعتدي بعنف على الشرطة المتواجدة محذراً إياها من أن سكان نانتير سيثورون… ولا شك في أن هذا الأخير تعرض للتوقيف بدوره وألقي به في السجن. ثم بعد ساعات قليلة، اشتعلت النيران في فرنسا بأكملها ويمكن أن يتطور الوضع الذي لا يزال تحت السيطرة حتى الساعة، بصورة خطيرة.

ومن ثم دعا الرئيس الفرنسي الأهل الى الإبقاء على الشبان داخل المنزل والرقابة على مواقع التواصل التي تؤجج نار الغضب. كما أشار بأصابع الاتهام الى “مجموعات منظمة” من دون أن يحدد هويتها وأدان مسؤولية الوالدين (بالتأكيد من العرب والمسلمين) بشكل يلمح إلى اعتقاده أنهم لم يقوموا بواجب التربية كما يجب! خطاب عضلي وخطير! باختصار، يبدو أن الرئيس يتفق مع الشرطة ضد جزء من شعبه. لكن ماكرون يذهب إلى أبعد من ذلك، بحيث ينتقد “الاستغلال غير المقبول” و”يدين بشدة أولئك الذين يستخدمون هذه اللحظة لمحاولة خلق الفوضى ومهاجمة مؤسساتنا”. أي رئيس دولة آخر من الجنوب يدلي بهذه التصريحات كان سيوصف بأنه “ديكتاتور” من وسائل الاعلام الفرنسية والمنظمات غير الحكومية التي تدفع رواتب للدول الغربية، ولكن ليس حين يتعلق الأمر برئيس دولة أوروبية… الكيل بمكيالين أليس كذلك؟

ونظراً الى حجم الأضرار، قررت الحكومة الفرنسية نشر مدرعات الدرك لمنع النهب وأعمال التخريب، فيما أشار وزير الداخلية إلى لقاء خاص بممثلي المنصات الرئيسة التي تتحكم بمواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر وتيك توك .. “من أجل دفعهم الى تحمل المسؤولية” ودعوتهم الى فرض رقابة على الصور التي يبثونها والتي أشعلت النار في الشارع.

سياسة الكيل بمكيالين تظهر جلياً أيضاً من خلال الاعتقالات الجماعية للمتظاهرين، وهي تقنية استخدمتها حكومات ماكرون بالفعل منذ ثورة السترات الصفر، وخلال المظاهرات ضد قانون التقاعد الجديد وسواها… تجدر الاشارة إلى التزام الرابطة الفرنسية لحقوق الانسان الصمت المتواطئ، على الرغم من أنها تسرع دائماً الى التنديد بانتهاك هذه الحقوق نفسها في أي بلد من بلدان العالم. وعلى الرغم من إدانة الأمم المتحدة، بقيت فروع المنظمات الخاصة بحقوق الإنسان صامتة بصورة مخجلة في بلدان المغرب على سبيل المثال وكأن العنصرية التي تطال عشرة ملايين من سكان شمال أفريقيا في فرنسا ليست جزءاً من “حقوقهم الانسانية”. وهكذا، لم نرَ أي مظاهرة أمام سفارات هذا البلد في العواصم المغاربية للتنديد بالجريمة العنصرية التي ارتكبها شرطي فرنسي. ومع ذلك، يشعر أكثر من مليون تونسي يعيشون على الأراضي الفرنسية بالقلق. تلك هي المعايير المزدوجة دائماً!

وفي حين أن مسألة الهجرة تحتل محور العلاقات بين الدول الأوروبية ودول الساحل الجنوبي ودول أفريقيا جنوب الصحراء، تعود قضية أبناء المهاجرين السابقين، الذين أصبحوا مواطنين فرنسيين أو أوروبيين، مرة أخرى لتطفو بحدة ولتترجم بالانقسامات العميقة في المجتمعات الأوروبية. ويدل صعود اليمين المتطرف إلى السلطة على رفض قطاعات كاملة من المجتمعات الأوروبية لعملية توطين المهاجرين، لا سيما عندما يأتون من أصل إسلامي. وتأتي العنصرية نتيجة هذا الرفض فقط وليست بأي حال من الأحوال المظهر الوحيد. واليوم، يظهر أن فرنسا بعيدة عن أن تنجو من أزمة تولد المزيد من العنف والكراهية… وللتذكير، لا يطالب هؤلاء “المهاجرون” إلا بممارسة حقوقهم كمواطنين ويعبّرون بقوة عن رفضهم أن يصنفوا كمواطنين من الدرجة الثانية”.

شارك المقال