من يملك الحظ الأوفر لدخول قصر بعبدا في الحادي والثلاثين من تشرين الثاني ٢٠٢٢؟ هل هو سليمان فرنجية؟ هل هو سمير جعجع؟ هل هو جبران باسيل؟ هل هو آمين الجميل أو بطرس حرب؟ هل هو شخصية لا تخطر في بال أحد من المراقبين أو صانعي القرار أوالمحللين أو حتى المنجمين، أو هو شخصية تنزل بالمظلة في اللحظة الأخيرة؟ هل هو رئيس من صنع حزب الله ومحور الممانعة؟ أم من صنع المعسكر العربي – الأميركي؟ أم من صنع خليط يجمع بين هذا وذاك؟
وأكثر من ذلك، ماذا لو حالت الظروف والتحولات دون تمهيد الطريق لأي من هذه الأسماء والاحتمالات، بحيث تخلو الساحة، عفواً أو قسراً، لتمديدٍ بالقوة أو لفراغ بات مألوفاً في الاستحقاقات الرئاسية في لبنان؟
حتى الآن، لم تقل دوائر القرارات الكبرى في العالم كلمتها بعد في أمر تعتبره سابقاً لأوانه إلى حد ما، في حين تبشر أجواء بنشعي ومعراب والبياضة في نوع خاص بأن أحد ساكنيها لا بد أن يكون الرئيس الرابع عشر لجمهورية متهاوية تبحث عن منقذ بأي ثمن، في حبن تلتزم بكفيا وتنورين ما يشبه الصمت المتربص.
وهنا لا بد من سؤال يطرح نفسه بقوة: علامَ يعتمد هؤلاء في حساباتهم الرئاسية؟ وماذا يملكون مما لا يملكه سواهم؟ وماذا يجعلهم آخر الموارنة المؤهلين لتولي الرئاسة الأولى أو أفضلهم على الإطلاق؟ وهل لا تزال نظرية “الرئيس القوي” مقياساً أو معياراً أو عرفاً أو شرطاً لا بد منه لدخول قصر بعبدا، على غرار ما نادى به ميشال عون ووافقه محور الممانعة، وسلم به خصومه الواحد بعد الآخر على مدى ثلاثين عاماً؟
وثمة سؤال آخر، مَن من هؤلاء يملك الغالبية النيابية المطلوبة إذا تعذر إنتاج برلمان جديد؟ ومن منهم يمكن أن يملكها إذا توافر إنتاجه في الوقت المحدد؟
وأكثر من ذلك، هل يمكن أن يبقي حزب الله، بعد عام ونصف من الآن، على القوة التي يملكها في الوقت الراهن؟ وهل يمكن أن يبقي التيار السيادي على الهزالة نفسها التي يملكها هذه الأيام؟ وهل يمكن للمعسكر الأميركي- الإيراني- العربي أن يبقي على الشروط والتحديات عينها التي يطرحها اليوم فوق الطاولة وتحتها؟ وهل يمكن للناخب اللبناني أن يبقي على الخيارات والولاءات عينها عندما تسنح له فرصة اتخاذ القرارات الحاسمة في أيار المقبل.
لا شك أن أحداً لا يملك أي إجابات ناجعة عن كل ما تقدم، في وقت ينقسم المشهد السياسي في لبنان، بين فريق محلي يسعى بعضه إلى إنقاذ العهد ومحوره وهو فريق حزب الله – باسيل، ويسعى البعض الآخر إلى إنقاذ حظوظه وهو فريق فرنجية- جعجع كل على حدة، وفريق دولي – عربي يسعى إلى إنقاذ ما تبقى من فرص الحياة في لبنان قبل أي شيء آخر، وفي مقدم ذلك الحياة الدستورية والسياسية والسيادية والاقتصادية وحتى الكيانية…
ويبدو واضحاً في هذا المجال، أن المجتمع الدولي لن يدلي بدلوه في معركة الرئاسة اللبنانية، قبل تبيان نتائج الانتخابات النيابية التي يصر على إجرائها من دون أي تأخير أو تردد أو مراوغة أو مماطلة، انطلاقاً من اقتناعه بأن ما يحتاج إليه لبنان للوقوف على قدميه مجدداً، يتمثل أولاً في إنتاج برلمان فاعل ثم لاحقاً في اختيار رئيس يستطيع أن يكون حَكَماً لا طرفاً ولا خصماً ولا تابعاً ولا مقيداً…
وببدو واضحاً أيضاً، في إضاءة على المرشحين “الطبيعيين”، أن فرنجية لا يبدو اليوم على الأقل، في موقع القادر على استعادة الزخم الذي تنَّعم به عندما طرحه الرئيس سعد الحريري مرشحاً رئاسياً سرعان ما كسب تأييداً محلياً وعربياً ودولياً، إذ أن الرجل أبقى على تحالفاته التاريخية ولم ينفتح على أي تحالفات أو تفاهمات جديدة، الأمر الذي أبقاه المرشح “الطرف” الذي يحتاج إلى نقلة عسكرية معتبَرة يسجلها محور الممانعة من بيروت إلى طهران على غرار ما أعقب حرب تموز وعزز فرص “الجنرال” الرئاسية.
وهنا نسأل: هل النقلة المعتبرة ممكنة أو واردة على الأقل؟ وهل يملك فرنجية الغالبية النيابية المطلوبة في البرلمان الحالي؟
في عرض سريع للتشكيلات النيابية الحالية، تبدو كتلة الرئيس نبيه بري الأكثر ميلاً إليه، في حين تطوي كتلة “المستقبل” ورقتها، ويسود التردد كتلة حزب الله، والترقب كتلة وليد جنبلاط، ما يعني عملياً أن فرنجية اليوم هو غير فرنجية قبل نحو ٥ سنوات، وأن حلفاءه في سوريا وإيران هم غيرهم اليوم، والأولويات لديهم تتجاوز الحصول على رئيس حليف في بيروت وخسارة الشرعية العربية والدولية للنظام الحاكم في دمشق وفك الحصارات الأميركية عن النظام الحاكم في طهران.
هذا على المستوى المحلي والإقليمي، أما على المستوى الدولي، فالأجواء ليست أفضل حالاً، لا سيما بعدما انتقلت واشنطن من حالة المهادنة إلى حالة المناوشة مع إيران، وبعدما شهرت واشنطن على فرنجية “بطاقة حمراء” من خلال العقوبات التي فرضتها على وزيره يوسف فنيانوس، وهي بطاقة تستهدف أمرين: تحالف فرنجية مع بشار الأسد، وترسيخ فنيانوس رجل “المردة” لدى حزب الله.
ولا يبدو جبران باسيل في وضع أفضل من حليفه الشمالي السابق، فهو يعاني خناقاً لم يعانِه مرشح رئاسي من قبل، وعداوات تكاد لا تحصى على المستويات المحلية والعربية والدولية، فضلاً عن سلة إنجازات فارغة لم يحملها أي طامح رئاسي منذ استقلال لبنان في العام ١٩٤٣.
ويكشف ديبلوماسي غربي أن باسيل أتقن فن هدر الفرص التي وفرها له عمه الرئيس ميشال عون وعرابه حزب الله، وتحول في لحظة من خليفة حتمية إلى مجرد رقم لا يجد مربعاً ثابتاً له في حسابات أحد حتى في حسابات أقرب حلفائه وأكثرهم رهاناً عليه أي حسن نصرالله.
ويضيف الديبلوماسي الغربي، أن صهر الرئيس اتبع سياسة فوقية لم توفر أحداً، ونقل لبنان من بلد يخاف عليه العالم إلى بلد يخاف منه، أو من بلد التوازنات المدروسة إلى بلد الخيارات الأحادية، مشيراً إلى أن الرجل راهن على حزب الله ، تماماً كما فعل ميشال عون ، وتعامل مع التحولات العالمية على أن الغلبة ستكون حكماً لمحور الممانعة.
وختم الدبلوماسي الغربي، أن باسيل استخف بمعظم المقومات السياسية في لبنان ومعظم المقومات الأساسية في العالم، وتجاهل الفرق بين القوة والاستقواء فوقع في قبضة من يريد رأسه.
وبعيداً من التحليل لا بد من الإضاءة على موقع جبران باسيل في البرلمان الحالي ليتبين أن الرجل لا يملك إلى جانبه إلا نواب حزب الله. في وقت يخوض خصومة قاسية مع كتلة الرئيس نبيه بري، وعداء مستفحلاً مع كتلة القوات اللبنانية، وعداء مستجداً مع كتلة المستقبل، وعداء متقلباً مع كتلة وليد جنبلاط، فضلاً عن تقلص كتلته بعد انسحاب بعض أعضائها، وعن ميل حزب الطاشناق إلى السير خلف سياسة خاصة تقوم على سياسة المصالح لا سياسة الإملاءات.
وأكثر من كل ما تقدم، تأتي العقوبات الأميركية التي أصابته في الصميم على المستويين الشخصي والسياسي، وحولته من حيثية يمكن الركون إليها إلى مشاغب يضرب شمالاً ويميناً تحت شعار: إما أكون رئيساً وإما لا تكون جمهورية، ومن “مصلح محتمل” إلى مخرب أكيد، ومن مرشح “قوي” إلى مرشح مطواع يقدم الرئاسة على السيادة، والمحور على الكيان، وإلى اسم وارد في معظم الحالات المشبوهة كلما تحدث فريق عربي أو دولي عن عقوبات جديدة قد تطاول شخصيات لبنانية في المستقبل.
وإذا كان قصر بعبدا بعيداً من طموحات فرنجية وباسيل، فهو أكثر بعداً وأكثر استحالة بالنسبة إلى سمير جعجع، الذي تسوق دوائره في مجالس خاصة أن الرئاسة الأولى ستكون من نصيبه هذه المرة لا محال..
وتستند هذه الدوائر في قناعتها إلى أمرين:
– حتمية الحصول على كتلة نيابية وازنة تعطيه موقع المرشح الماروني الأقوى.
– الرهان على احتمال تراجع القبضة الإيرانية في المنطقة لمصلحة القبضة الأميركية التي انتقلت من جزرة بايدن إلى عصا ترامب…
وتذهب هذه الدوائر بعيداً في حساباتها، لتكشف أن جعجع لا يزال الصامد الوحيد في معسكر الرابع عشر من آذار، والحليف الوحيد للأميركيين وأنظمة الخليج، والشخصية المارونية الوحيدة التي تملك قاعدة شعبية متماسكة ومعبأة للوقوف في وجه حزب الله والمحور السوري – الإيراني سواء سياسياً أو شعبياً أو حتى أمنياً.
هذا الانطباع الذي يبرز في الكواليس هو غيره في العلن، إذ يهمس دبلوماسي غربي أن جعجع لا يستطيع أن يكون زعيماً وطنياً ناجحاً لأسباب تتعلق بماضيه من جهة وشخصيته من جهة ثانية، لكنه قد يستطيع أن يكون رئيساً ناجحاً على مستوى الإصلاح والإدارة وبناء المؤسسات.
ويضيف أن الصفات شيء والحقيقة شيء آخر، مشيراً إلى أن جعجع يحمل على كتفيه ماضياً ثقيلاً لم ينحسر كثيراً على رغم كل المحاولات التي بذلها إما لتبييضه في مكان وإما لتبريره في مكان وإما لطمره في كل مكان…
ويرى الدبلوماسي الغربي أن موقع جعجع داخل البرلمان الحالي لا يختلف كثيراً عن موقع جبران باسيل فيه، ملمحاً إلى أن قائد القوات اللبنانية لا يضمن إلى جانبه ما يتعدى كتلة القوات اللبنانية وحدها، في وقت تتوحد في مواجهته كتل حزب الله وأمل والمستقبل والتيار الوطني الحر والمردة، ويقف نواب جنبلاط وكتلته والنواب المستقلون في المنطقة الرمادية.
ويقول سياسي مخضرم في هذا المجال إن جعجع لا يصالح أعداءه حتى النهاية ولا يحرص على أصدقائه حتى النهاية، مشيراً على سبيل المثال لا الحصر إلى انتقاله من ناطق باسم الرابع عشر من آذار وحتى باسم السنة في إحدى المراحل، إلى مجرد “ضيف” في مهرجاناته الموسمية وإلى “حليف ملتبس” لدى السنة في مجالسهم السرية والعلنية ، لا سيما بعدما مشى بالقانون الانتخابي الأخير على رغم علمه المسبق بتماهيه مع حسابات حزب الله وحلفائه، وبعدما مشى بالمرشح ميشال عون رئيسا للجمهورية على رغم علمه بحجم التحالف السياسي القائم بين الجنرال وحسن نصرالله.
لكن دوائر جعجع ترفض هذه المشهدية القاتمة، وتصر على أن الشروخ التي حصلت تحتاج إلى طرفين لا إلى طرف واحد، وأن كل شيء مرهون بنتائج الانتخابات المقبلة التي ستعطي القوات اللبنانية نحو ٢٥ نائباً. وألمحت إلى أن الرجل تخلى عن معظم الشؤون الداخلية لمصلحة زوجته وفريقها المعاون، وانصرف إلى معركة الرئاسة بكل اسلحتها المتوافرة.
وعندما تسأل أحد المقربين من جعجع عن فرص الفوز، يجيب: “إنها أميركا.. فكل شيء رهن إشارة من أصبعها”.
وهنا يطرح السؤال: كيف يمكن لأميركا أن تفرض رئيساً في لبنان في ظل التركيبة العسكرية والسياسية والأمنية والعقائدية القائمة الآن؟ وكيف يمكن أن تفعل ذلك من دون تفاهم مع الناخبين الكبار في لبنان والمنطقة؟ وهو تفاهم لا يمكن أن يقع على “رئيس طرف” له من العداوات والتباينات ما يكفي لإفشال عهده أو لإشعاله.
وقد سها عن دوائر معراب، أن الفرص الاستثنائية لا تتكرر دائماً، وأن لبنان والمسيحيين لا يمكن أن يعودوا إلى العام ١٩٨٢ عندما تجمع العالم تقريباً خلف بشير الجميل، وأن أحداً، سواء في أميركا أو أوروبا أو حتى إسرائيل على استعداد لغزو لبنان على صهوة تحمل هذا المرشح أو ذاك.
وسط هذه الأجواء، تذهب الأنظار والقراءات في اتجاهات مختلفة تضع المسترئسين في مكان والرئيس في مكان آخر، وتترك للمتغيرات المتوقعة في المنطقة أن تعطي محور الممانعة، إذا تفوق، مرشحاً من طينة إميل لحود، وتعطي المعارضة، إذا تفوقت، مرشحاً من طينة الجنرال جوزيف عون، وتعطي الاثنين، إذا تعادلا أو تفاهما، مرشحا من طينة توافقية يشبه البحث عنها البحث عن إبرة في كومة قش.