هل يمهد النزاع على “الغجر” لترسيم الحدود البرية؟

زياد سامي عيتاني

عادت الأنظار في الآونة الأخيرة تتجه نحو جنوب لبنان، بعدما ضمّ العدو الاسرائيلي القسم الشمالي من بلدة “الغجر” إلى الأراضي المحتلة! فتزامناً مع إقامة “حزب الله” منذ فترة خيمتين في مزارع شبعا، ومطالبة إسرائيل الأمم المتحدة بالتدخل لاخلاء الموقعين، باعتبار أنهما داخل “الأراضي الاسرائيلية”، أنهت قوات الاحتلال تثبيت السياج الحديدي الذي ضمّت من خلاله كامل الجزء الشمالي اللبناني من بلدة “الغجر” الحدودية إلى الأراضي المحتلة، إضافة إلى زرع كاميرات تجسّس على أبراج حديدية موجّهة نحو الأراضي اللبنانية، وتصل مدى فعاليتها إلى 5 كيلومترات، فضلاً عن إنتهائها من تثبيت سياج معدني ذي مواصفات عالية، في محيط كامل الجزء اللبناني وإعلان تكريس إحتلاله وضمّه رسمياً إلى الأراضي المحتلة.

وعلى الرغم من هذا التطور البارز، فإن المراقبين يستبعدون أي توتر أو تصعيد من شأنه أن يؤدي الى حصول حدث عسكري كبير، كإندلاع حرب واسعة بين “حزب الله” وإسرائيل، مع دخول دول مؤثرة على خط الاتصالات لتهدئة الأوضاع، بحيث تستمرّ الوساطات التي يتولّاها الفرنسيون والأميركيون والأمم المتحدة، بعدما أبلغهم لبنان رسمياً، أن قضية الغجر خارج النقاش، وأن “الخيم مرتبطة بالنقاط الـ 16 المتنازع عليها ومن ضمنها نقطة B1”.

ولا يستبعد المراقبون أن تكون التطورات على الحدود الجنوبية مضبوطة وممسوكة، لا بل أكثر من ذلك مخطط ومعد لها، بالاتفاق مع جميع الفرقاء، تمهيداً لترسيم حدود لبنان الجنوبية البرية، إستكمالاً لترسيم البحرية منها، وما أنتجه من “إتفاق” بوساطة أميركية ورعاية الأمم المتحدة عام 2022، خصوصاً وأن دولاً غربية أبلغت لبنان أن إسرائيل مستعدة للدخول في محادثات حول الترسيم البري بشأن النقاط المتنازع عليها، وأكد وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال عبد الله بو حبيب أن “طرح الترسيم البري جنوباً جدّي”، مشيراً إلى أنه “الحل لمختلف الاشكالات على الحدود الجنوبية، وهو لا يعني تطبيعاً”. وأوضح أن هنالك “13 نقطة خلافية على الحدود مع إسرائيل، 7 منها هناك اتفاق عليها، و6 تشكّل مادّة خلاف”.

بإنتظار ما سيحمله القادم من الأيام بشأن التطورات الجنوبية، المعطوفة على حركة ديبلوماسية واسعة بشأنها، يعرض موقع “لبنان الكبير” تقريراً يبيّن الجوانب التاريخية لأزمة “الغجر”.

“الغجر” قرية صغيرة، سكانها من الطائفة العلوية واقعة في ركن محاصر من ثلاث دول في الشرق الأوسط، وهي إسرائيل ولبنان وسوريا، ولم يرغب أحد فيها بعد حرب الأيام الستة عام 1967. فبعدما إحتلت إسرائيل الجولان وصلت إلى قرية “الغجر”، ولم تحتلها بدعوى أن الأوراق الثبوتية تفيد بأنها للبنان، بحسب الخرائط البريطانية التي كانت في حوزته. إلا أن الدولة اللبنانية تخلت عنها، لأسباب بقيت مجهولة، بحيث أشارت السلطات في لبنان إلى أن الغجر قرية سورية ولا يمكن الدخول إليها.

ورفض الضباط اللبنانيون في قضاء مرجعيون في ذلك الوقت قبول أهل “الغجر”، وحظر الجيش اللبناني عليهم إجتياز الحدود. لذلك، بقي السكان لمدة شهرين ونصف الشهر دولة مستقلة مكونة من 36 عائلة. وعندما طالبوا الدولة اللبنانية بفرض السيادة على قريتهم، رفضت السلطات اللبنانية تلبية طلبهم، وهكذا بقوا لفترة من الزمن خارج أي سلطة.

إستغل العدو هذا التخلّي، فقام باحتلالها واعتبارها جزءاً من الجولان المحتل الذي أعلن ضمه عام 1981، إلا أن معطى جديداً طرأ في تلك المرحلة، وتحديداً بعد الاحتلال الاسرائيلي للبنان عام 1978 وسيطرته على جانبي الحدود، بحيث توسعت “الغجر” شمالاً داخل الأراضي اللبنانية، وعلى مشاعات تابعة للدولة ولملكيات خاصة لبنانية، لتنشأ قضية معقدة وتعتبر إحدى أبرز “القضايا الحدودية” العالقة بين لبنان وإسرائيل، إلى جانب مزارع شبعا.

بعد إنسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في العام 2000، قسم الخط الأزرق القرية إلى شمال لبناني وجزء إسرائيلي جنوبي. وتم الاتفاق على أن تخرج إسرائيل من القسم اللبناني من “الغجر”، على أن تدخل الأمم المتحدة وإستخبارات الجيش اللبناني لتأكيد سيادة لبنان عليه.

خلال حرب تموز عام 2006، دخلت إسرائيل إلى القسم اللبناني، وعلى الرغم من صدور القرار 1701، الذي نصّ على وجوب إنسحابها من كل الأراضي، وهو ما لم تنفذه، راحت تقوم بإجراءات متتالية عدوانية، وصولاً إلى إنشاء سياج شائك وبناء جدار إسمنتي حول كامل البلدة، ما أدى إلى فصلها عن محيطها الطبيعي التاريخي داخل الأراضي اللبنانية. وفرضت اسرائيل سلطتها بصورة كاملة على القسمين اللبناني والمحتل من البلدة، وأخضعتها لادارتها بالتوازي مع فتح القرية أمام السياح القادمين من داخل اسرائيل.

وحتى أشهر قليلة مضت، كانت “الغجر” منطقة عسكرية مقيدة ومعزولة، أما الآن فأصبحت قبلة للسياح الاسرائيليين، إذ يتوافدون على القرية الصغيرة، ذات الشوارع النظيفة، ويزورون بصورة أساسية حديقة “السلام” (وهي حديقة صغيرة ذات مناظر طبيعية جميلة في وسط القرية).

لا بد أخيراً،من التوقف عند أهمية هذه النقطة بموقعها الجغرافي كمركز دفاعي مهم للعدو ولما يسمى “أصبع الجليل”، بحيث أن موقع القرية المتقدم في موازاة مستعمرات المطلة، وولاء سكانها للاحتلال الاسرائيلي، يجعلها قرية إستراتيجية بالنسبة اليه.

كذلك، أهمية موقع البلدة جغرافياً، حيث تقع شرقي نهر الوزاني، على خطّ قمم يمتد جنوباً حتى جسر الروماني وهي نقطة الالتقاء الحدودية الثلاثية بين لبنان وسوريا وفلسطين المحتلة. وتحدّها من الشمال مزرعة سردة وخراج بلدة الماري، ومن الجنوب فلسطين المحتلة، ومن الشرق العباسية والمجيدية، ومن الغرب بلدة عرب اللويزة (عرب الوزاني).

شارك المقال