دريان وضع طريق حل للأزمة التي حذر منها الحريري

زياد سامي عيتاني

ما بين إعلان الرئيس سعد الحريري تعليق العمل السياسي، والموقف الوطني المتقدّم الذي أطلقه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان منذ أيام، شهد المشهد السياسي اللبناني اهتزازاً كبيراً وإرتدادات خطيرة، من جرّاء غياب المكوّن السني عن ذلك المشهد المأزوم، ما تسبّب بخلل بنيوي في المعادلة السياسية في بلد يحكمه منطق التوازنات.

وكان لهذا الغياب (لسنا في صدد الحديث عن أسبابه) الأثر البالغ في تفاقم الأزمة غير المسبوقة التي يعيشها لبنان (الوطن والكيان والصيغة) وتعاظمها، وبالتالي إستحالة التمكّن من الوصول إلى تسويات (داخلية وخارجية) لاخراجه من أزمته، التي باتت خطراً حقيقياً داهماً، يهدّد لبنان بصيغته الراهنة.

في 24 كانون الثاني من العام 2022، أطلّ الرئيس سعد الحريري على اللبنانيين من خلال مؤتمر صحافي في “بيت الوسط”، حيث غلبت على ظهوره ملامح الحزن والخيبة، وكذلك القلق على ما ينتظر لبنان واللبنانيين من مخاطر ومآسٍ.

يومها، أعلن موقفه المنتظر والمتوقّع، على مستويين: أولاً، تعليق عمله وعمل تياره (المستقبل) في الحياة السياسية. وثانياً، عدم الترشح للانتخابات النيابية وعدم التقدّم بترشيحات من تياره أو باسمه، منسحباً من الانتخابات لأول مرة، بعد دخوله المعترك السياسي وريثاً إثر اغتيال والده رفيق الحريري في 2005.

لم يكن خياره بالاعتكاف، هروباً من المسؤولية في أخطر مرحلة يمرّ بها لبنان بعد الحرب الأهلية، وهو الزعيم الأول في الطائفة السنّية، وصاحب أكبر تكتل برلماني لها، بل إن خطوته كانت ناتجة عن قناعة ذاتية بإستحالة التوصل مع الطبقة السياسية المتحكمة، التي عانى منها الأمرين (حلفاء وخصوم وأهل البيت) إلى إمكان إنقاذ لبنان من الإنهيار الداهم، خصوصاً وأنّه الوحيد الذي تجرأ وتجاوب مع صرخة اللبنانيين في 17 تشرين، وقدّم إستقالة حكومته، بعد عدم التجاوب مع خطة الإنقاذ التي وضعها.

كذلك، هدف أيضاً من خلال قرار التعليق، الى إحداث صدمة وطنية، علّها تسهم في إحداث صحوة ضمير عند الأطراف المتناحرة. فقد ربط تعليق عمله السياسي خلال المؤتمر الصحافي، بجملة أسباب، لعل أهمها قوله: “إنّ كلّ تسوياته السياسية جاءت على حسابه، وتسبّبت بخسارة ثروته وأصدقائه الخارجيين والتحالفات الوطنية وحتى الإخوة”، مضيفاً: “أن لا فرصة أمام لبنان في ظل نفوذ إيران”.

من المفيد في هذا السياق، التذكير بما عاناه الحريري، قبل الاعلان عن قراره غير المفاجئ، من معاناة سياسية، أجهضت كل محاولاته الانقاذية، في وقت كان يرى فيه لبنان ذاهباً إلى “جهنم”! فقد عاش الرجل خلال “العهد القوي”، مرحلة ممتلئة بالإضطرابات والتهجمات والاستهدافات والنكايات السياسية، لشلّ حركته وتكبيله، بهدف الوصول إلى هزيمته السياسية، حتى لو كان الثمن خسارة لبنان، والفوز الوهمي للفرقاء المتناحرين، خصوصاً بعد سقوط تسويته مع ميشال عون وصهره النائب جبران باسيل، وبلوغ خلافاتهما ذورة غير معهودة، وعجزه عن تأليف الحكومة على مدى أكثر من 9 أشهر بعد إستقالة حكومة حسّان دياب في آب 2020 عقب إنفجار المرفأ.

بالعودة إلى الأسباب التي ربط بها قرار إعتكافه يومذاك، فإنّها عملياً أقرب إلى تشريح موضوعي دقيق لأسباب الأزمة السياسية العميقة، التي استمرت من وقتها بالتفاقم والتكاثر، حتى وصلنا إلى الإنهيار الكبير، وإنسداد كلّ أفق الحلول.

وقتها، لم يقل سعد الحريري كلمته، ليمشي، بل شخّص المرض، تاركاً للفرقاء الذين منعوه من معالجته، أن يجترحوا الترياق. وبدلاً من اللجوء إلى التدخّل الجراحي لإنقاذ لبنان، أمعنوا في مفاقمة أمراضه، مكتفين بوضعه على جهاز التنفس الاصطناعي، ليدخل في مرحلة الموت السريري، التي باتت غير كافية لبقائه على هذه الحال، بعد إنقضاء ما يقارب الأشهر الثمانية من الفراغ الرئاسي، الذي يقابله شلل واحتضار تامّ في كلّ مؤسسات الدولة، باستثناء الجيش والأجهزة الأمنية، الذين يؤدون دورهم الوطني بـ “طلوع الروح”!

وفي الوقت الذي يغرق فيه الجميع في المناورات والمراوغات لشراء الوقت، وبعدما سقطت كلّ الرهانات على المبادرات الخارجية، وتحديداً من فرنسا، جاء الموقف (الصرخة) الذي أعلنه مفتي الجمهورية، عقب عودته من المملكة العربية السعودية، في توقيت له دلالته البالغة، وكأنّها رسالة حاسمة إلى كلّ الأطراف اللبنانية، مفادها “الاسراع في إنتخاب رئيس للجمهورية، وفقاً للأطر الدستورية (كتأكيد على التمسّك بدستور الطائف)، مع التأكيد أنّ الدول العربية تنتظر أن يساعد اللبنانيون أنفسهم، حتى تساعدهم (تأكيد على عروبة لبنان، وإخراجه من القبضة الإيرانية)”.

فقد قدّم المفتي دريان مقاربة دقيقة للأزمة، طارحاً خريطة طريق للشروع في المعالجة الحقيقيّة والجديّة، وفقاً لما سمعه من نصائح من المسؤولين السعوديين والعرب في المملكة.

المفارقة أنّ ما طرحه المفتي دريان، يشكل عناوين عريضة لمشروع حلّ للأزمة – المأزق، التي كان قد بيّن أسبابها الرئيس الحريري عند إعلان تعليق عمله السياسي.

وهذه المفارقة، تدل بما لا يقبل الشك، على أن الموقف الوطني للطائفة السنية، ينطلق من المصلحة الوطنية العليا، ويهدف إلى تعزيزها وصونها، بعيداً عن الصراعات السلطوية والأنانيات السياسية الضيقة، خصوصاً في المراحل المفصلية، التي يكون فيها لبنان في خطر.

والأمانة التاريخية تقتضي التذكير بالمبادئ العشرة التي صدرت عن اللقاء الإسلامي في دار الفتوى، برئاسة المفتي الشهيد حسن خالد، التي شكلت فيما بعد، مادة أساسية خلال صياغة إتفاق الطائف.

الخلاصة، أنّ الطائفة السنّية في لبنان ببعدها الوطني الملتزم بالميثاقية -التعايشية، وإنتمائها العربي المتنور والمنفتح، منذ تأسيس دولة لبنان الكبير سنة ١٩٢٠، شكّلت نقطة الارتكاز وحجر الزاوية في قيام الجمهورية اللبنانية، من خلال الدور الوطني الريادي الذي أداه زعماؤها، بإرادة وطنية جامعة، وبتصميم قوي على التعايش، عندما نجحوا في إنتاج صيغة فريدة ومميزة، كانت أساساً للميثاق الوطني وإستقلال ١٩٤٣.

وبعد إتفاق الطائف، كان الأداء الوطني الموضوعي والعاقل الذي أداه الرئيس الشهيد رفيق الحريري، قد أوجد مساحة واسعة على إمتداد الوطن من الإرتياح والطمأنة لدى مختلف الشرائح المجتمعية، ما دفع القادة الروحيين والزمنيين الوطنيين لباقي الطوائف الى التفاعل بإيجابية مطلقة مع هذا الدور التوافقي لدرجة التكامل والإندماج، (مواقف البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير خير دليل على ذلك)، بحيث أن الرئيس الشهيد بذل جهوداً مضنية لتوفير ما هو ممكن ومتاح من “الوحدة الوطنية” و”العيش المشترك” بين اللبنانيين.

هذا التوجّه الوطني التوحيدي الجامع المشهود تاريخياً للقيادات والمرجعيات السنية الروحية والسياسية، والذي يشكل ركيزة وضمانة كيانية لبنان ووحدته، يجعل جميع الفرقاء والأطراف يراهنون على العودة الفاعلة والمؤثرة لتلك القيادات الى لعب دورها الانقاذي، في هذه المرحلة الحرجة، التي تحتاج الى العقلاء والحكماء.

ل هذا الرهان، يكفي لعودة الرئيس سعد الحريري إلى لبنان، حاملاً مبادرة وطنية إنقاذية؟

شارك المقال