تداعيات فراغ الحاكمية تتجاوز الشغور الرئاسي

زياد سامي عيتاني

الفراغ في حاكمية مصرف لبنان، ينطوي على مخاطر عظيمة، قد تصل بتداعياتها الكارثية إقتصادياً وإجتماعياً إلى مهلكات، من شأنها تسريع وقع إنهيار الدولة والمجتمع بشكل لا يمكن لأحد إيقافه، حتى تتفلت الأمور، وتصبح خارج نطاق السيطرة.

ولا مبالغة ولا مغالاة بالقول إن فراغ الحاكمية أخطر بكثير من الفراغ الرئاسي، بكل إنعكاساته السلبياته على الواقع السياسي المأزوم، وعلى واقع عمل ما تبقى من مؤسسات الدولة المتهالكة والمحتضرة. اذ بمعزل عن هوية حاكم مصرف لبنان، فإنه يعتبر بما يتمتع به من صلاحيات ومهام حصرية منوطة به “الرجل الأقوى في الجمهورية” (!) فهو الآمر الناهي المطلق في إدارة البنك المركزي، ويمتلك صلاحيات السياسة النقدية والمصرفية، وكذلك رئيس المحكمة المصرفية العليا التي تعزل إدارات المصارف وتحيلها على المحاكم المختصة، وهو الوصي على لجنة الرقابة على المصارف، ورئيس هيئة أسواق المال، ورئيس هيئة التحقيق الخاصة التي تراقب تطبيق القوانين في مجال تبييض الأموال.

كذلك، فإن الحاكم يقوم بتحديد السياسة النقدية والتسليفية، وإصدار التعاميم النقدية والأنظمة، وتنظيم عمل المصارف، والبتّ في الملفات المتعلقة بها، وفتح الاعتمادات والبتّ في طلبات القطاع العام، إضافةً إلى إصدار النقد وغيرها من الأمور.

هذه الصلاحيات الحصرية الواسعة و”شديدة المركزية” تجعل من فراغ المنصب أمراً بالغ الخطورة والتعقيد، بحيث أن الفراغ سيشل السلطة القادرة على إيجاد النقد وتوفيره، وتمويل الخزينة، ما يهدد بوقف الانفاق العام، الأمر الذي سيؤدي إلى مزيد من الانهيارات المالية والنقدية.

أمام هذه المشهدية، وبانتظار ما سيحمله الأسبوع الطالع، بدا التهيّب من الفراغ في الموقع ومسؤولياته طاغياً على مراكز القرار لدى مرجعيات السلطة وعلى المشهد العام، باعتبار أن صيغة “الاستمرار في تسيير شؤون المرفق العام” لا تسري على تعيينات الفئة الأولى في هيئات السلطة النقدية، والمنوطة حصراً بمجلس الوزراء.

صحيح أن المشرّع اللبناني قد تنبه الى مثل هذه السابقة، بحيث نصت المادة (25) من قانون النقد والتسليف: “بحال شغور منصب الحاكم، يتولى نائب الحاكم الأول مهام الحاكم ريثما يُعيّن حاكم جديد”…، غير أن الاشكالية القائمة بشأن كيفية ملء فراغ الحاكمية، ليست قانونية، بل تعكس حلقة من التداعيات الناجمة عن احتدام الصراع السياسي جراء الانقسام العمودي الحاد حيال مختلف القضايا الخلافية المستحكمة، بدءاً بالشغور الرئاسي، وربما وصولاً إلى إعادة تكوين النظام السياسي بأكمله.

ومع الرفض القاطع للرئيس نبيه بري بأن تنتقل صلاحيات الحاكم إلى نائبه الأول (شيعي)، بحجة ظاهرها أنه لا يريد خلق “حساسية” طائفية لدى الموارنة، أما باطنها فعدم تحميل النائب الأول، تبعات وأثقال الاجراءات غير الشعبية التي من المفترض اللجوء إليها، حتى لا تستغل سياسياً في الهجوم على الرئيس البري، الذي يشكل المرجعية السياسية للنائب الأول، وبما أن التعيين منوط بمجلس الوزراء، فإن حكومة تصريف الأعمال، لا تملك هذه الصلاحية، على الرغم من بعض الاجتهادات الدستورية، بأن “الضرورات تبيح المحظورات”، والتي تلقى معارضة مسيحية، خصوصاً في ظل الفراغ الرئاسي، بحيث جرت العادة أن يكون لرئيس الجمهورية رأي راجح في إختيار الحاكم.

هذا الاستحقاق الجديد والبالغ الخطورة، يضع لبنان أمام مأزق جديد، يتجاوز بتداعياته الحرجة تداعيات الفراغ الرئاسي، لاعتبارات أساسية، ليس أقلها خطورة أن الاستقرار المالي في حدوده الدنيا، سيغدو مهدداً بقوة، بما يترتب عليه من نشوء مرحلة غير مسبوقة بغموضها وتفلتها من الضوابط في حال تحقق فعلاً الفراغ الشامل على مستوى حاكم مصرف لبنان والمجلس المركزي للحاكمية بنوابه الأربعة، الأمر الذي يطلق العنان لتداعيات فوضى مالية ومصرفية، لم يسبق أن شهدتها البلاد منذ اللحظة الأولى للإنهيار الذي بدأ عام 2019.

شارك المقال