أي حوار مخالف لـ”الطائف” مصيره كمؤتمري “جنيف” و”لوزان”

زياد سامي عيتاني

منذ زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الى لبنان، عقب تفجير بيروت ومرفئها “المزلزل” في الرابع من آب 2020، طرح مبادرة فرنسية لعقد طاولة حوار تجتمع حولها القوى اللبنانية للبحث في النظام. لكن ما لبث أن انطوى الاقتراح، بعد بروز اعتراضات كثيفة ومتنوّعة المشارب في لبنان، خوفاً من “مؤتمر تأسيسي” يحضّر له “حزب الله” لتأمين “غطاء دستوري” للثلث المعطّل، تحت عنوان “المثالثة”.

على الرغم من عدم تجاوب غالبية الفرقاء اللبنانيين مع الحوار برعاية فرنسية، إضافة الى غياب مظلة دولية واقليمية له، خصوصاً الدول المؤثرة في لبنان، تستمر في البروز بين الحين والآخر، رغبة فرنسية في الدعوة الى حوار وطني، وهذا ما ظهر بصورة قوية مع بدء المأزق الرئاسي، من دون أن يلقى أي تجاوب لا محلي ولا خارجي، خصوصاً مع التوجس من المبادرة التي لطالما حاولت باريس تسويقها، والقائمة على تبني مرشح “حزب الله” سليمان فرنجية، مقابل أن يتولى رئاسة الحكومة تمام أو نواف سلام.

إلا أن هذا الطرح الفرنسي سقط إلى غير رجعة خلال إجتماع اللجنة الخماسية، أمام الموقف الصارم والحاسم للمملكة العربية السعودية المتطابق مع الموقفين القطري والمصري، بضرورة إتباع المسار الدستوري لإنتخاب رئيس للبنان، وذلك تكريساً لاتفاق “الطائف” كمرجعية دستورية وقاعدة وطنية لأي حل للأزمة اللبنانية، إذا كانت النوايا صادقة والارادة متوافرة لإخراج لبنان من أزماته المتمادية، وما عدا ذلك لا يعدو كونه مراوحة وتمييعاً للوضع الكارثي الراهن.

وأكدت الديبلوماسية العربية خلال إجتماع الدوحة للموفد الرئاسي الفرنسي، أن أي دعوة الى الحوار من خارج الأطر والمؤسسات الدستورية، وقبل إنتخاب رئيس للجمهورية، لن تكون سوى نسخة “مقزمة” لمؤتمري “جنيف” و”لوزان”، اللذين أطالا أمد الحرب اللبنانية حينذاك.

ولمن لم يعتبر من الفشل الذريع لمؤتمري “جنيف” و”لوزان”، وعبثية تكرار السيناريو نفسه، يعيد موقع “لبنان الكبير” الاضاءة على ظروف إنعقادهما، وفشلهما في وقف الحرب المدمرة آنذاك، قبل التوصل بعد سنوات إلى إقرار إتفاق “الطائف”:

مؤتمر “جنيف”:

انعقد مؤتمر الحوار اللبناني في جنيف، في 31 تشرين الأول حتى 4 تشرين الثاني 1983، ثم استؤنف في لوزان، في 12 آذار واستمر حتى 20 منه عام 1984، برعاية سوريا والسعودية وبمشاركة الرئيس أمين الجميل وممثلي التشكيلات السياسية والمسلحة الرئيسة.

وأكد المشاركون عروبة لبنان وطالبوا بإلغاء اتفاق 17 أيار 1983 الموقع بين لبنان وإسرائيل برعاية الولايات المتحدة.

مؤتمر “لوزان”:

وعلى عكس حوار جنيف، الذي تميز بعدم الفاعلية، كان حوار لوزان أكثر إيجابية، لعدة أسباب تتعلق بتطورات الوضع الداخلي والاقليمي والدولي. وكان أهم تطور شهده لبنان، في الأسابيع الأولى من العام 1984، هو تحقيق الأحزاب (الوطنية) المناهضة لحكم أمين الجميل والأحزاب المسيحية، انتصارات واضحة، كفلت لها سيطرة ميدانية على القسم الغربي من بيروت، وتحرير قرى الجبل ذات الغالبية الدرزية، وواكب ذلك انقسام الجيش اللبناني. وعُدَّ هذا التطور دليلاً على قرب انهيار سلطة الجميل، فبدأ الحديث عن البديل.

وعلى أثر القرار الأميركي، وسحب مشاة البحرية الأميركية “المارينز” من لبنان، في شباط 1984، ونقلهم إلى السفن والبوارج الأميركية، بالقرب من الساحل اللبناني، تفاقم مأزق الرئيس الجميل الذي أدرك أن لا مفر من التعامل مع قوى المعارضة اللبنانية وحلفائها (سوريا)، من دون الاعتماد على دعم أميركي، بعد أن تراجع الرئيس رونالد ريغان، إثر نسف مقر قيادة “المارينز” في لبنان، في 23 تشرين الأول 1983.

هكذا، وجد أمين الجميل نفسه وحيداً في قصر بعبدا، يواجه مصيره، والمصير اللبناني المجهول، بعد أن هجره الذين راهن عليهم، إلى السفن الراسية أمام الساحل. وإزاء هذا التطور، كان عليه أن يعيد ترتيب أوراقه، على الصعيد الاقليمي، كمقدمة ضرورية لإنجاح الحوار الداخلي، الذي دعا إلى استئنافه، مؤكداً، للمرة الأولى، أن “كل شيء مطروح للتفاوض”. وبدأ بخطوتين، بالتنسيق مع الديبلوماسية السعودية:

1- زيارة دمشق، في آخر شباط 1984، وعقد لقاء قمة مع الرئيس السوري حافظ الأسد.

2- إلغاء اتفاق 17 أيار، اللبناني – الاسرائيلي، استرضاءً لسوريا. وصدر بيان رسمي بذلك من مجلس الوزراء اللبناني، في 5 آذار 1984، وقرر المجلس في الوقت عينه، إستئناف مؤتمر المصالحة الوطنية اللبنانية، في لوزان، في 12 آذار 1984.

وبذلك، نجح الرئيس الجميل في التمهيد لمؤتمر حوار وطني، كان أوفر حظاً من سابقه، الذي عقد في جنيف، على الرغم من أن أطراف المؤتمَرَين، كانت هي نفسها: الرئيس أمين الجميل ووالده الشيخ بيار الجميل، الرئيسان السابقان كميل شمعون وسليمان فرنجية، رئيسا الوزراء السابقان صائب سلام ورشيد كرامي، رئيس مجلس النواب الأسبق عادل عسيران، رئيس حركة “أمل” نبيه بري ورئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط.

والمشروعات التي طرحت في مؤتمر الحوار في لوزان، لم تخرج، في مجملها، عما طُرح قبلها. فورقة العمل المشتركة، لبري وجنبلاط، انطلقت من العلمنة، وأهم ما تضمنته:

أ. انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب، مباشرة، لا داخل مجلس النواب، كما هو معمول به الآن.

ب. النواب لا يُنتخَبون على أساس طائفي، بل على أساس التمثيل النسبي.

ج. استحداث مجلس شيوخ، يُنتخَب أعضاؤه على أساس طائفي، تحقيقاً للتوازن مع مجلس النواب.

د. انتخاب رئيس الوزراء من مجلس النواب.

هـ. إلغاء الطائفية السياسية، على كل الأصعدة.

و. إقرار مبدأ الاستفتاء الشعبي.

ز. إعادة النظر في قوانين الجيش، وفي تركيبته.

بينما قدمت “الجبهة اللبنانية” عبر قطبيها، بيار الجميل وكميل شمعون، مشروعاً يدعو صراحة، إلى تحويل لبنان إلى جمهورية اتحادية، تضم أربع مناطق.

أما الرئيس الجميل، فقدم ورقة عمل موسّعة للاصلاح السياسي، عكست اتجاه الاصلاح المحدود، أو غير الجذري. وقال إنها نتيجة جهد لجنة تشكلت بعد مؤتمر “جنيف”، ووَفَّقت بين مختلف مطالب الاصلاح، بحيث اتّفقوا على إطار يعطي الأولوية لوقف إطلاق النار بين المتقاتلين ويقرّر عودة الجيش اللبناني إلى ثكناته وتشكيل هيئة لمراجعة الدستور.

شارك المقال