الكل ناطر “عالكوع”!

صلاح تقي الدين

لم يكن انقلاب شاحنة على طريق الشام الدولية في بلدة الكحالة حدثاً استثنائياً بالنسبة الى أهالي البلدة أو العابرين الدائمين على هذه الطريق، فـ”كوع” الكحالة شهير بأنه فخ للشاحنات والسيارات التي تجوب طرق لبنان من دون أدنى معايير السلامة المرورية سواء من حيث الصيانة المطلوبة لها أو من حيث تهور السائقين، غير أن اكتشاف أهالي البلدة أن الشاحنة مرتبطة بـ”حزب الله” أقام الدنيا ولم يقعدها.

ما حدث ناتج عن الاحتقان النفسي الكبير الذي يعاني منه معظم اللبنانيين المستائين من “فائض قوة” الحزب الذي يبرهن يوماً بعد يوم من خلال مواقفه السياسية والشعبية أنه لا يبالي بما يشعر به سائر اللبنانيين من ضائقة أو غبن، وبالتالي يعزّز الشعور لديهم بأن الوقت حان لوضع حد لتصرفاته أو بالحد الأدنى مواجهتها.

لكن المواجهة التي حدثت في الكحالة ونتج عنها سقوط قتيلين أحدهما من أبناء البلدة والذي تبيّن أنه لم يكن بعيداً عن “محور” الحزب، كانت من الخطورة بمكان خصوصاً وأنها تعدّت المواجهة الشعبية إلى مواجهة بالسلاح المنتشر أصلاً بكثافة في كل المناطق اللبنانية، فلولا تدخل الجيش في الوقت المناسب لكانت الأمور أفلتت من عقالها وأودت بالبلاد إلى فتنة لا زلنا لحكمة البعض من السياسيين وعقلانيته نقف على أبوابها ولا نسمح لها بالدخول.

وإذا كانت الفوقية التي يتصرّف بها “حزب الله” سبباً مباشراً لاشعال النفوس، إلا أن التصاريح التي تولى من يسعون إلى بناء زعامات شعبية إلى إطلاقها لا يمكن إيجاد أي تفسير منطقي لها. فماذا يعني أن ينبري رئيس حزب “الكتائب” النائب سامي الجميل الى القول بأن الحكي في السياسة مع “حزب الله” قد توقف؟ ما المقصود من هذا التصريح؟ اللجوء إلى السلاح والدخول في أتون حرب أهلية جديدة يبدو أن سعادته لم يتعلّم منها على الرغم من الثمن الكبير الذي دفعه حزبياً وسياسياً وعائلياً بسببها.

لقد سلّم كل عقلاء السياسة في لبنان، وهم أًصبحوا بالمناسبة قلّة قليلة، أن مسألة سلاح “حزب الله” تعدت الأزمة الداخلية وتحوّلت إلى مشكلة إقليمية ودولية وقرار تسليمه لن يكون إلا في إطار صفقة تتداخل فيها القوى الاقليمية والدولية، وأن مواجهة الحزب في الداخل لا يمكن أن تكون إلا من خلال طاولة حوار تطرح موضوع الاستراتيجية الدفاعية والأفضل أن لا يكون هناك موضوع آخر عليها، لكن بعد أن يقوم المعنيون بأداء الوظيفة الأولى المنوطة بهم وهي انتخاب رئيس للجمهورية.

وعوض أن يقوم المعنيون بحسابات “الدكنجية” فتارة يحسبون أن أوراق المرشح الفلاني قد سقطت أو أن أسهم المرشح الآخر قد ارتفعت، عليهم أن يضعوا في الحسبان مصير بلد ترتفع فيه نسبة الجرائم الفردية بصورة مطّردة، ويزداد احتقان النفوس لدرجة كبيرة قد يستغلها طابور خامس يسعى إلى الانهيار النهائي الفعلي للبنان، وأن يلجؤوا إلى خطاب التهدئة والحوار لأنه الخيار الوحيد المتاح أمامهم ولا خيار آخر سوى الجحيم.

وعلى الرغم مما أوصلنا إليه صاحب شعار “جهنم” الرئيس السابق ميشال عون بسياساته وسوء إدارة عهده، إلا أنه يسجلّ له موقف وطني عبّر عنه بتغريدته عقب الحادثة فقال: “التحريض، الذي حدث في أثناء حادثة الكحالة وبعدها، كاد يُشعل فتنة، يمكن أن نعرف كيف تبدأ، لكن لا نعرف كيف تنتهي”.

ودعا عون، في تغريدة على موقع “أكس” إلى التهدئة بدلاً من التحريض، و”مدّ جسور الثقة بدلاً من بثّ سموم الكراهية”، مشدّداً على ضرورة “انتظار نتائج التحقيق”. واذ حذّر من أنّ “الهيكل إذا سقط فلن يسلم أحد، وخصوصاً في ظل الظروف التي تحيط بنا كلبنانيين”، أشار إلى أنّ لا منقذ في الأزمات “سوى الوحدة الوطنية”، مشدداً على التمسّك بها.

وكذلك كانت تغريدة رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” النائب تيمور جنبلاط، موسومة بالحكمة وتدعو إلى التهدئة وضبط النفس، وقال عبر حسابه على منصة “اكس”: “الرجاء أن لا يتكرر سقوط الضحايا بين اللبنانيين، والتعزية بالذين قضوا في الكحالة. فوق الجراح المطلوب عدم السماح باستغلال الأمر لإثارة الفتنة ونبش الماضي، بل يجب التلاقي مع كل موقف حكيم وعاقل. نتمسك بالوحدة الوطنية، وننتظر نتائج التحقيق ليبنى عليه من دون الطعن بالمؤسسات لاسيما الجيش”.

والمؤسف أن الجيش اللبناني لم يسلم من الانتقادات من الفريقين، فأحدهما اتهمه بهدف حرق أوراق قائده العماد جوزيف عون لمنع وصوله كمرشح توافقي إلى الرئاسة، وآخر اتهمه بمسايرة “حزب الله” وتغطية أفعاله طمعاً بكسب تأييده له حين تطرح الأسماء الثالثة إلى الرئاسة.

لكن الفريقين أخطآ في التصويب على المؤسسة الوحيدة الباقية على “قيد الحياة” بعد الانهيار الذي أصاب سائر مؤسسات الدولة الأخرى. فهل المطلوب انهيار الجيش لكي يسقط الهيكل فوق رؤوس اللبنانيين جميعاً؟ ما هكذا تورد الابل. حافظوا على الجيش لأنه صمام الأمان الوحيد والأخير الباقي، ولا تستعيدوا تجارب سابقة مريرة.

لقد أظهرت حادثة الكحالة أن السياسيين جميعهم من دون استثناء “ناطرين بعضهم على الكوع”، سواء كوع الكحالة أم الطيونة أو شويا أو عين إبل، فكل الطرق فيها “أكواع” ولا سبيل لتجاوزها إلا بالحكمة والحوار، فالجؤوا إليها.

شارك المقال