سلاح “حزب الله” مقابل السلم الأهلي!

جورج حايك
جورج حايك

تتهيّب كل القوى السياسية اللبنانية ما حصل في الكحالة الأسبوع الفائت، فهي حادثة خطيرة تُنذر بنقمة شعبية لبنانية عموماً ومسيحية خصوصاً على سلاح “حزب الله” من جهة، وإصرار “الحزب” على الاستمرار بنهجه في استخدام السلاح لحماية السلاح من جهة أخرى، وهذا النهج الانقلابي مستمر منذ أحداث 7 أيار 2008.

في الواقع، لا يمكن أن تسلم “الجرّة” كل مرة، فعناصر “الحزب” المسلحون لا يترددون في استخدام السلاح عند كل مواجهة مع معارضيهم، واستسهال “الحزب” استخدام السلاح على هذا النحو، قد يجرّ معارضيه في المقابل، الى استخدام السلاح للدفاع عن النفس، والأصوات الشعبية المطالبة بالتسلّح ترتفع وخصوصاً في لحظات الغضب و”فورة الدم”، وربما ما يضبط الأمور حتى الآن هو الأحزاب المسيحية المنظّمة التي لا تريد أن تشعل حرباً جديدة، وهي التي انخرطت في عملية مقاومة طويلة في حرب 1975، وبالتالي تعرف ما معنى الحرب وويلاتها ومأساتها، ليس خوفاً، إنما حرص على الحد الأدنى من الاستقرار في لبنان، ولئلا تُتّهم بأنها لم تستنفد الوسائل السياسية حتى النهاية.

لكن في المقابل، وعلى الرغم من إدراك “الحزب” أن البلد مقسوم حول سلاحه، والبيئة اللبنانية عموماً والمسيحية خصوصاً رافضة لسلاحه ومنطقه الميليشياوي، ولا تعترف بمقاومته، بل تعتبره فصيلاً ايرانياً بفعل تمويله وتدريبه وسلاحه وخدمته لمشروع ايران، لا يزال يستفز هذه البيئة إن في شويا أو خلدة أو عين الرمانة والآن الكحالة.

لا شك في أن هذه الأحداث المتعاقبة، تدل على غياب الحكمة السياسية لدى “حزب الله” وقيادته، فهو يبرر استخدامه للسلاح للمحافظة على “السلم الأهلي” ودرء الفتنة، ولعل هذا المنطق المنحرف ليس سوى استخفاف بعقول اللبنانيين، وهو يقول بما معناه “إذا أردتم أن تحافظوا على السلم الأهلي ودرء الفتنة، عليكم أن ترضخوا لسلاحي وتخضعوا لإرادتي”، علماً أن “الحزب” يفرض سلاحه على حساب الدولة والدستور والقانون والجيش اللبناني. وبالتالي الانقلاب على اتفاق الطائف مستمر من خلال إبقاء السلاح بيد “الحزب”، ومعظم الشعب يعرف أن الدولة لا تستقيم بوجود سلاحين.

وكل مرة يستخدم فيها “الحزب” سلاحه يخترع مبررات واهية، ففي 7 أيار 2008 أطلق عنوان حماية شبكة اتصالات المقاومة وأمن المطار مقابل السلم الأهلي، وهي شبكة اتصالات غير شرعية. وفي 14 تشرين الأول عام 2021، غزا عين الرمانة بسلاحه مخيّراً اللبنانيين بين عدالته الاستنسابية ووقف تحقيق انفجار المرفأ مقابل السلم الأهلي. وفي 9 آب 2023 استخدم سلاحه في الكحالة وها هو يطرح على اللبنانيين ذريعة خطوط امداد المقاومة مقابل السلم الأهلي.

والمؤسف أن الجيش اللبناني كان في كل هذه الأوضاع يقف متفرجاً أو يتعامل مع ممارسات “الحزب” بليونة، وربما تكون الأخطاء التي يرتكبها الجيش لا تعود الى المؤسسة بل الى القيادة السياسية المنبطحة أمام “الحزب”. وهذا ما ينسحب على القضاء أيضاً، لأن “الحزب” قضم مؤسسات الدولة وأخضعها لمشروعه، وعندما يتعذّر ذلك يلجأ إلى الفوضى والترهيب. حتماً لا بديل من الجيش اللبناني حتى اليوم شرط عدم المساواة بين ميليشيا مسلّحة ومواطنين عزّل، ولا بديل من القضاء شرط عدم الاستنسابية في العدالة. فـ”الحزب” يقول للبنانيين اليوم: “تريدون المسّ بالسلاح، ادفعوا الثمن من سلمكم الأهلي”. في الحقيقة هذه المعادلة خطرة جداً وتساهل الجيش مع سلاح “الحزب” والتصدي لسلاح الدفاع عن النفس، سيؤدي إلى مزيد من الاحتقان وربما إلى الانفجار لاحقاً. ويبدو أن هذه المواجهات ستتكرر طالما يشعر “الحزب” بفائض القوة من دون رادع. لذلك، قد يشهد الخريف المقبل تصاعداً في الأحداث وخصوصاً أن الجوّ السياسي متوتر ولا حلول متوقعة في الملف الرئاسي، ولا شيء يضمن بقاء الوضع في استقرار مستمر.

لا يمكن حماية السلم الأهلي في لبنان إلا من خلال الدولة والدستور والقانون والعدالة والشرعية، ولا يُمكن حمايته من سلاح ميليشياوي. هذا السلاح لا يمكن أن يكون للحماية، بل لإخضاع المجتمع اللبناني، والقول للبنانيين عليكم الخضوع أو نستخدم هذا السلاح من أجل إخضاعكم بالقوة. وهذا ما يحصل كل مرة لا يتمكن “الحزب” من تحقيق مأربه عن طريق السياسة، وعن طريق بعض مؤسسات الدولة، يلجأ إلى استخدام سلاحه في الداخل. بالتالي هذا السلاح ووجود “حزب الله”، بحد ذاته مناقض للسلم الأهلي والدولة والدستور.

ما يجب أن يعلمه “الحزب” أن كثراً من اللبنانيين طفح الكيل معهم من مقولة “السلم الأهلي” الكاذبة، وباتوا يرفضون وضعية “الحزب” التي تجعله يملك من السلاح ما لا يملكه الجيش اللبناني، مبتلعاً الدولة والقرار السياسي، بحيث لم يعد لبنان يملك أمر نفسه حتى في اختيار رئيسه! ولم يكتف “الحزب” بلبنان، بل تمدد في كل الدول العربية والخليجية، يرسل خلاياه لكي تعيث فساداً وتخريباً وإرهاباً وتثير فتناً طائفية وتمزق النسيج المجتمعي.

يتحفنا عباقرة “الحزب” ببدعة “السلم الأهلي” ودرء الفتنة عندما يشعر بضغط المطالبة بنزع سلاحه، في حين يهتز هذا السلم الأهلي الهش كل 5 أشهر ويُقتل أبرياء، فينتفض “الحزب” متهماً خصومه بالصهاينة والتعامل مع اسرائيل للتآمر ضد سلاح “المقاومة”. لكن الشعب لم يعد يصدق هذه الكذبة، وينتظر من مسؤوليه، على الأقل السياديين، أن ينتظموا في جبهة كبيرة منظّمة تقاوم هذا “الحزب” وتواجهه بجرأة وشجاعة، لا الانكفاء والصمت بسبب اليأس أو القناعة الضمنية بأن شيئاً لن يتغيّر، والتاريخ يشهد أن المجتمعات التي تعاني من خلل سياسي أو عسكري معيّن لا تتغيّر إلا بفعل الارادات الصلبة التي لا تخاف من المواجهة.

والمقصود في هذا الكلام ليس حرباً، إنما إعلان حالة من الاستنفار، لمواكبة الشعب الثائر على السلاح غير الشرعي، لأن بقاء هذا السلاح سيدفع البلاد صوب شيء يشبه الحرب الأهلية، وهذا ما يحثّ على سؤال واضح: ما الذي سيحول لاحقاً دون الحرب طالما هناك ميليشيا مذهبية مسلّحة، تعيث في البلد خراباً وفساداً؟

ختاماً، يبدو أن “حزب الله” لم يتعلم شيئاً من التاريخ، وبعد حرب أهلية قتل وجرح فيها مئات آلاف اللبنانيين، يتضح أن جروح الحرب لم تندمل، بل يشجع سلوك “الحزب” على استئناف العنف بدلاً من التقاطه لحظة وطنية تعيد التأسيس لإقامة دولة حقيقية تلغي تاريخاً قاسياً ودموياً من العنصرية. والتعبئة التي يقوم بها “حزب الله” لأنصاره، تحرّك الغرائز المذهبية، حتى ليكاد المرء يشعر بأن التبعية أهم من قوت الأطفال.

في علم النفس والجريمة، غالباً ما يعود القاتل إلى مسرح جريمته، والمؤسف أن لبنان خير مثال على تطبيق هذه النظرية، فبين حين وآخر يتحرك “الحزب” في مساحته الجغرافية والمذهبية ليلغي الوطن، ولذلك فإن العودة الى كذبة “السلم الاهلي” بدلاً من إقامة دولة القانون والعدالة الاجتماعية وفصل السلطات وتعزيز روح الانتماء إلى الوطن لا إلى ميليشيا مذهبية تسمي نفسها مقاومة، ستكون كما حالها دائماً ضد الدولة وجسراً لقتل الأبرياء بين حين وآخر!

شارك المقال