السياسي الذي بنى خزنة في الحديقة

عاصم عبد الرحمن

شكَّل تقرير التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان الذي أعدته شركة “Alvarez and Marsal” مادة للتراشق بين السياسيين والاعلاميين والمؤيدين على السواء استناداً إلى ما ورد فيه من بيانات عن تنفيعات مادية ضخمة استفادت منها شخصيات ومؤسسات لطالما ادّعت العفة السياسية، في مقابل مَنْ تفاخر بعدم ورود أي اسم يمت إلى فريقه السياسي بصلة، فهل كل مَنْ لم يرد اسمه في التقرير براء من تهمة اغتصاب المال العام؟

رجالٌ عظام، مفكرون وساسة كبار استحقوا التتويج الشعبي حتى لو اختلفت معهم في الرأي، صنعوا الحدث السياسي والاعلامي والثقافي والوطني وغير ذلك، أطلقوا عبارات وجُمل تحولت لاحقاً إلى شعارات سياسية وفكرية تُستحضر عند كل استحقاق محلي وعربي وإقليمي وحتى دولي، لكن هذا لا يعني أن ساسة لبنان ذاك العصر لم يسمعوا للخارج أو لم يتلقوا تعليمات سفاراتية أو لم يرتهنوا إلى قادة وزعماء دول أخرى، إلا أنهم حفظوا ماء وجههم وحافظوا على حد أدنى من الديموقراطية والحياء السياسي الذي فُقد في عالم اليوم، والأنكى أن لا أحد من سياسيي لبنان يبحث عنه أو يسعى إلى اقتباس حفنة منه إلا ما ندر.

يروي الصحافي والمؤرخ اللبناني الشهير إسكندر رياشي الذي عاصر الانتداب الفرنسي بلعبه أدواراً سياسية ومالية كبيرة في عهده: “إن الدول الكبرى كانت تشتري ذمم سياسيي لبنان من نواب ورؤساء وتدفع المال من أجل ترجيح كفة حلفائها، فالولايات المتحدة خصصت 10 ملايين دولار لحسم معركة التجديد للرئيس المنتهية ولايته آنذاك كميل شمعون أواخر العام 1958 عبر السفير العراقي في لبنان الذي برّر عن غير قصد لأحد المقربين من شمعون أن الأموال الأميركية تأخرت في الوصول وهو ما حال دون حسم معركة التجديد لصالحه فتمَّ انتخاب فؤاد شهاب خلفاً له”.

اليوم عُلّق العمل السياسي على خشبة الفجور المصلحي، وإذا كان قبض الأموال السياسية في الماضي قد تمَّ سراً وعبر سفراء دول صديقة أو شقيقة لحفظ كرامات السياسيين أقله أمام مؤيديهم ومواطنيهم، فقد بات صرف العمولات اليوم بصورة علنية وسافرة لا بل هم أنفسهم يطالبون بحصصهم أو يسألون عن حجم الحقيبة التي سيتلقونها من دون أي خجل أو وجل لا أمام شاري الذمم ولا أمام مزور الذمم الذي يقدم البيعة العمياء لزعيمه الذي يفكر عنه ويقبض عنه ويعيش عنه بينما هو يصفق له ويفرح له ويعيش له.

لم يبخل تقرير “Alvarez and Marsal” في ذكر أسماء الشخصيات والمؤسسات السياسية والاعلامية والثقافية والرياضية والفنية وغيرها التي استفادت من أموال مصرف لبنان بطريقة ما وفق ما ورد في التقرير، مع الاشارة إلى أن هناك مخفياً أعظم بانتظار صدوره أو طويت صفحاته لكن من الواضح أن التقرير يخلو من قطب سياسي مشاكس ومثير للجدل الاعلامي الدائم والاستفزاز الخطابي المَقيت على اعتبار أنه أكثر مَنْ يحاضر بالعفة والفجور السياسي يفيض من بين يديه ورجليه وعن يمينه وعن شماله.

وفي هذا السياق، يروي مصدر خاص لـ “لبنان الكبير” قصة مالية بطلها هذا السياسي المشاكس والمستفز اطلع عليها عن كثب تتمحور حول بناء غرفة من الاسمنت المسلح تحت الأرض تقارب مساحتها الـ 80 متراً مربعاً في حديقة قصر أحد أقربائه الموثوقين جداً وفي إحدى أجمل مدن لبنان السياحية والثقافية، تغطي جدران هذه الغرفة ألواح خشبية مدعمة يعلوها مسبح لإبعاد الشبهات عنها ويمكن الدخول إليها عبر إحدى غرف تبديل الملابس التابعة للمسبح ولا يقيم بجانبها أي حارس تجنباً لإثارة الشكوك حولها، هذه الغرفة هي عبارة عن خزنة تحتوي على كميات هائلة من الدولار الأميركي خصوصاً الورقة البيضاء ذات الطبعة القديمة والتي تُدفع كأجور للعمال التابعين لهذا السياسي من دون إمكان اعتراضهم عليها.

قد تبدو قصة خيالية لكنها قابلة للحياة في بلاد العجائب السياسية التي أباحت كل محظور تحت غطاء الديموقراطية المفقودة دائماً في خنادق مرور التسويات الخارجية المنتظرة التي يُستخدم السياسيون من أجل خلق سيناريوهاتها وإنضاج ظروفها وبالتالي إسقاطها على الواقع اللبناني طبقاً للمصالح الدولية غير الأخلاقية.

أصبح سياسيو لبنان مثالاً يُحتذى في ممارسة أقذر أنواع الفجور السياسي بحق الشعب الذي يراهن عليهم لإنقاذه من جهنم الدمار التي أوقعوه فيها ولا يزالون، إذ إن بعضهم لا يزال يراوده الأمل في تحقيق خرق ما في جدار الأزمة الاسمنتي الذي يزيده تصلباً مساندة جماهير الزعماء تحت شعار حقوق الطائفة وكينونتها، فهل يستفيق الشعب يوماً متسائلاً: هل هذا ما جناه زعيمي أم جنيت على نفسي؟

شارك المقال