لو يستمعون إلى العقل!

صلاح تقي الدين

ليس غريباً أن تصدح في الأجواء مؤخراً الدعوات إلى “الطلاق” أو التقسيم أو الفديرالية في الأوساط اللبنانية المسيحية تحديداً، وأن ينبري المدافعون عن هذه النظريات الى الاعلان جهاراً عن رفضهم للنظام السياسي المعمول به حالياً في لبنان، غير أن هذه الدعوات إنما تصب في خانة “اللامنطق” والبعيدة كل البعد عن “الرسالة” التي تمتع بها لبنان منذ نشأته ككيان مستقل.

لقد ارتضى اللبنانيون منذ أكثر من قرن إيلاء مصيرهم إلى المسيحيين الموارنة، وكانوا يشكلون أكثرية في تلك الحقبة، وكانوا ولا يزالون يشكلون “قيمة مضافة” في هذا الشرق العربي، وسبب قبول اللبنانيين بذلك يعود الى الدور الذي لعبه الموارنة في تحقيق الاستقلال والخروج عن سلطة الانتداب الفرنسي على أمل أن يقودوا الدولة الحديثة النشأة إلى مصاف الدول الديموقراطية الحقيقية.

لكن وفي استعراض سريع لما أنتجه الموارنة في ممارسة السلطة يمكن القول بكل صراحة ووضوح، إن المسلمين شركاءهم في الوطن غفروا لهم حتى استعانتهم بالعدو الاسرائيلي لتثبيت سيطرتهم على البلد، وحتى استجلابهم للاحتلال السوري في العام 1976 قبل أن ينقلبوا عليه لاحقاً والنتائج الكارثية لتعاونهم مع جهتين خارجيتين، وخاضوا حروباً داخلية لم تكن لصالحهم بنتائجها المباشرة بل تكبدوا خسائر هائلة جراءها، على الرغم من أن الخسارة كانت شاملة للبنانيين جميعهم، إلى أن اقتنعوا بوجوب الحوار مع الآخر (أي المسلمون) في مدينة الطائف السعودية، فكانت وثيقة الوفاق الوطني التي تحولت إلى دستور الطائف الذي يروق للتقسيميين والفديراليين اليوم المناداة بتغييره.

لقد تغيرت الصورة الديموغرافية للبنان الذي كان المسيحيون يشكلون الأكثرية فيه، فأًصبحت الأكثرية اليوم مع المسلمين، ولم يكن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي على خطأ حينما أعلن أن المسيحيين والموارنة تحديداً يشكلون أكثر من 19% من عدد السكان، فجميع الأرقام الموجودة لدى الأحزاب السياسية كافة التي خاضت الانتخابات النيابية الأخيرة تؤكد هذا المؤكد، ومع ذلك، حافظ دستور الطائف للمسيحيين على المناصفة وأوقف الرئيس الشهيد رفيق الحريري “العد” بهدف إقناع المسيحيين بأنهم جزء لا يتجزأ من هذا البلد ورسالته.

وإذا كانت أصوات التقسيميين والفديراليين عالية هذه الأيام، إلا أن صوتاً عاقلاً مسيحياً ومارونياً لا يحق لأحد التشكيك بمارونيته هو صوت النائب السابق فارس سعيد الذي يفنّد الأسباب التي تجعله يتشدد في المحافظة على اتفاق الطائف، ويعتبر أن أي مس به أو تعديل له بمثابة انتحار أو دخول في المجهول بما يتعلق بمصير الكيان اللبناني عموماً ومصير المسيحيين خصوصاً.

وعلى الرغم من أن سعيد لم يتنكّر يوماً لمواقفه المناهضة لـ “حزب الله”، إلا أن المنطق الذي يتعامل به مع الواقع الحالي جعل مقربين من الحزب ينقلون عن مصادر قيادية فيه أن سعيد كان صريحاً عندما قال: “ما دام ليس لدينا المال والسلاح لمواجهة الحزب فلنحاورهم”، وهذا الموقف كان سعيد قد أعلنه في رد على دعوات التوقف عن مواجهة “حزب الله” سياسياً عقب حادثة كوع الكحالة.

وإذا كان “حزب الله” يقدّر لسعيد مواقفه، فحري بمن يزعمون قيادة الموارنة أو يسعون إلى إحكام قبضتهم على قرار هذه الطائفة الكريمة أن يعودوا إلى العقل والحكمة في تصاريحهم ومواقفهم والتخلي عن الشعبوية والعمل جدياً على الخروج من نفق الأزمة الرئاسية التي إحدى أهم أسبابها، بل لعله السبب الوحيد، الطموحات الشخصية لهؤلاء.

ولسعيد مواقف عديدة أعلنها في الفترة الأخيرة وجميعها تصب في خانة التمسك باتفاق الطائف واستقلال لبنان، بحيث قال في مقابلة تلفزيونية: “نريد إستقلال لبنان والاستقلال مشروع دائم ويومي بكل طوائفه وبكل اللبنانيين وبحدوده ونظامه وتركيبته وعيشه المشترك”.

كما اعتبر أن “ما من فريق ضمانة للبنان، فاللبنانيون والدستور اللبناني هم ضمانته، ومن غير الصحيح أن حزب الله ضمانة لبنان، فهو ضمانة الخراب الذي حصل في لبنان منذ 2005”.

لم يغّير سعيد جلدته، لكنه مارس براغماتية سياسية لم تعد موجودة بكل أسف لدى من يعتبرون أنفسهم قادة الموارنة في لبنان، وإذا كان كلام سعيد ومنطقه يتماهيان بصورة كبيرة مع كلام البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي ومواقفه، فإن سعيد هو صاحب التعليق الشهير: “تمسّك البطريرك باتفاق الطائف بطريرك الكلام”.

ومن المواقف العقلانية الأخرى لسعيد، والتي ينبغي الاستماع إليها والتفكير العميق فيها، وهذا كلام موجه إلى القادة الموارنة تحديداً: “الخروج من اتفاق الطائف خطوة في اتجاه المجهول. إذا لم تجتمع المعارضة للدفاع عن الدستور يزول لبنان الذي عرفناه. سأظلّ من الذين يدافعون حتى الرمق الأخير عن معنى لبنان القائم على العيش المشترك”.

الدعوة إلى التعقل والحكمة في هذه الأيام العصيبة قد تكون مهمة صعبة، لكن طالما أن أصواتاً عاقلة يمثّلها فارس سعيد لا تزال تنبه اللبنانيين عموماً والموارنة خصوصاً وبشكل أخص أولئك التقسيميون والفديراليون منهم، إلى المخاطر التي يجرون لبنان إليها سواء بدعواتهم المحرّضة لمواجهة “حزب الله” خارج إطار الحوار، أو بـ”الطلاق” التقسيمي، فلا خوف على لبنان الذي كان من الأزل وسيبقى.

شارك المقال