بين المسيحيين و”الحزب”… “مش ماشي الحال”!

جورج حايك
جورج حايك

لم يقاوم المسيحيون في لبنان التمدد الفلسطيني والاحتلال السوري ويبذلوا آلاف الشهداء طوال 15 عاماً، ليرضوا اليوم بمشروع ايراني يجسّده “حزب الله” بسلاحه وتدريبه وتمويله وعقيدته، ويعمل على تحويل لبنان مستعمرة ايرانية، مصادراً مؤسسات الدولة وضارباً مقوّماتها، مهدداً السلم الأهلي من خلال سلاحه المنتشر في كل مكان. وربما دقّت حادثة الكحالة جرس الانذار، وأظهرت أن كيل المسيحيين من حالة الفوضى التي يسببها سلاح “الحزب” طفح، إضافة إلى الاستقواء على كل المكوّنات الوطنية المتعددة.

لا يمكن للمسيحيين العيش على أرض واحدة فيها أكثر من دولة وجيش وسلطة وسيادة، وهذا ما عبّر عنه البطريرك مار بشارة بطرس الراعي بصراحة. انه كلام يحاكي وجدان المسيحيين بمختلف طوائفهم وأحزابهم وتياراتهم، ولا نقصد هنا بعض المسؤولين المسيحيين الذين يمالقون “حزب الله” من أجل مصالح ذاتية وطموحات لا تعني قواعدهم الشعبية، إنما كل الرأي العام المسيحي لا يستطيع العيش إلا مع منطق الدولة والمؤسسات والقانون بعيداً عن النزعات الميليشياوية المذهبية.

كلما انحشر “الحزب” يمنّن المسيحيين بأنه يدافع عن مقاماتهم ومعابدهم ومناطقهم، فيما لم يطلب أحد من المسيحيين حماية “الحزب”، فهم تاريخياً يعتمدون على الجيش اللبناني، المؤسسة العسكرية الوحيدة التي تملك حق الدفاع عن المسيحيين والمسلمين، وبالتالي لا أحد منح “الحزب” حقاً حصرياً في حماية لبنان، بل هو يتجاوز اتفاق الطائف الذي اتفق المسؤولون اللبنانيون بموجبه عام 1989 في مدينة الطائف السعودية على انهاء الحرب وحلّ الميليشيات المسلّحة، فيما “الحزب” احتفظ بسلاحه بغطاء من النظام السوري الذي كان يحتل لبنان. وإذا اعتبرنا أن سلاح “الحزب” كان “مقاومة” ضد اسرائيل، فإن الأخيرة انسحبت من لبنان عام 2000، ولم يفعل سلاح “الحزب” منذ ذلك الوقت سوى اغتيال الشخصيات السياسية المعارضة له، بدءاً من الرئيس الشهيد رفيق الحريري وحتى الشهيد لقمان سليم، وربما لم تتوقف آلة القتل حتى الآن بحيث يشتبه به في تصفية القيادي في “القوات اللبنانية” الياس الحصروني منذ أسبوعين، ولا تزال التحقيقات جارية على قدم وساق.

ولا تقتصر مآثر “الحزب” المدمّرة على الاغتيالات، فهو استخدم سلاحه مرات ومرات، سواء في بيروت (7 أيار) وخلدة وشويا وعين الرمانة وأخيراً الكحالة، ومارس الهيمنة على القضاء من خلال تهديد قاضي التحقيق في انفجار المرفأ طارق البيطار وعطّل المسار القضائي، وضرب مالية الدولة واقتصادها من خلال منع الاصلاحات وعزل لبنان عن المجتمعين العربي والدولي، ويحاول فرض مرشّحه الرئاسي سليمان فرنجية معطلاً الآلية الانتخابية الدستورية، فاستمر الشغور الرئاسي، ما يعرّض البلد إلى هزات متكررة وينسف الاستقرار.

يرى المسيحيون كل هذه الموبقات والانحرافات التي يقودها “حزب الله”، ويشعرون أن الدولة التي وعدوا بحمايتها لهم، تقف عاجزة، تساوم بين دولة القانون والميليشيا المسلحة والمصنفة ارهابية من عشرات الدول في العالم، يعانون من حالة استنزاف في ظل هذا الوضع المرير، وكل الاستطلاعات تشير إلى أنهم يهاجرون بكثافة وخصوصاً الشباب، وهذا ما ينعكس تراجعاً في عددهم، ويُهدد وجودهم!

قد يطرح الخبثاء، المقربون من “حزب الله”، نظرية أن رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل مسؤول مسيحي مهم له حيثيته، وهو يحاور “الحزب”، ما ينسف مقاربة أن مشروع “الحزب” يضرّ المسيحيين، لكن القاصي والداني يعرف أن باسيل لا يحفل بأوضاعهم البائسة، وما يفعله مع “الحزب” من حوار لا يعبّر عن تطلعاتهم، فهم جرّبوه في اتفاق مار مخايل وأعطوه ثقتهم، فماذا فعل؟ سلّم إدارة البلد لـ”الحزب” وانتخب عمه ميشال عون رئيساً صورياً في حين تحوّل لبنان بلداً معزولاً في كنف محور الممانعة الذي تقوده ايران، ما أوصله إلى الانهيار ولا يزال حتى اليوم. وها هو باسيل المغامر “التاجر” يعيد الكرة ليطالب باللامركزية الادارية والمالية الموسّعة والصندوق الائتماني، وكلاهما حقوق مكتسبة لا فضل له ولـ”الحزب” فيها، علماً أن غايته تحقيق مكاسب خاصة، يعيّن فيها بعضاً من جماعته في مواقع تسهّل له اجراء الصفقات، مقابل تسليم البلد مرة أخرى لـ”حزب الله” الذي سيضع رئيساً صورياً مثل سليمان فرنجية ويستكمل مخططه للسيطرة نهائياً على لبنان، ما سيضرب مقوّمات الصمود لدى المسيحيين ويقضي على وجودهم نهائياً، بحيث لن يبقى في بلد الأرز سوى من يمتهن نهج الذمية والمنفعة الذاتية كما يمارسها باسيل.

لكن يبدو أن الرأي العام المسيحي في مكان آخر، وما يحصل من احتكاكات بينه وبين “الحزب” من وقت إلى آخر ليس سوى دليل على ذلك، وهناك أحزاب مسيحية لها تمثيل مسيحي عريض وواسع مثل “القوات اللبنانية” و”الكتائب” وحتى جماهير “التيار الوطني الحر” وبعض الشخصيات السيادية المعروفة تعارض نهج “حزب الله” بشراسة، وما يُطمئن أن هذه الأحزاب والتيارات تلتقي مع معارضة لشخصيات سنيّة ودرزية لها تمثيلها أيضاً تواجه مشروع “الحزب”، وهي تشكّل جبهة معارضة قوية له، لذلك هو يعجز حتى اليوم عن انتخاب فرنجية رئيساً، ومن الواضح أن هذه المعارضة تحقق تقدماً بالنقاط على “الحزب” وحلفائه، علماً أن المسيحيين يعرفون أن أي مواجهة مع “الحزب” لا يمكن أن تكون فاعلة إلا عبر معارضة وطنية لا مسيحية فقط، وهذا ما يُعمل عليه، ومواقف المفتي عبد اللطيف دريان رائدة على الصعيد الوطني.

يضع أكثرية المسيحيين ثقتهم بهذه المعارضة، وبقدر ما تُظهر تماسكاً ورؤية واحدة يشعرون بالأمان ويتفاءلون بأنها ستحقق أهدافها وتنقذ لبنان من براثن “الحزب”، على الرغم من محاولات فرنسا الدؤوبة لاعطاء “الحزب” ما يريده من تسويات وصفقات. ولعل ما يعبّر عن تطلعات المسيحيين قولاً وفعلاً كان جواب المعارضة على رسالة المبعوث الفرنسي جان ايف لودريان، بحيث رفضت أي مجال لترتيب تسويات تعيد انتاج سيطرة “الحزب” على الرئاسات الثلاث والبلد، وحذّرت من فرض رئيس يشكّل امتداداً لسلطة “الحزب” ووعدت بالإستمرار في مواجهة أي مسار يؤدي إلى استمرار خطف الدولة، كما جددت عزمها على الوصول إلى سياسة خارجية تعتمد الحياد، رافضة الحوار مع “الحزب” وحلفائه. ودعت القضاء والجيش وسائر الأجهزة الأمنية إلى مراعاة المصلحة الوطنية وحدها لا المصالح الفئوية، مشددة على حصر السلاح بيد الدولة وقواها العسكرية الشرعية. وأنهت ردّها على لودريان بأن المواصفات المطلوب توافرها في الرئيس العتيد موجودة في بيان الدوحة الصادر عن مجموعة الدول الخمس.

من الواضح أن المسيحيين يجذبهم الخطاب الواضح البعيد عن المساومة، صحيح أنهم لا يريدون حرباً أهلية، إلا أنهم لا يخافون من المواجهة السياسية الواضحة حتى النهاية، ولا يرعبهم سلاح “الحزب”، بل يستمدون من تاريخ أجدادهم القوة والقدرة على الصمود، فهم اعتادوا مواجهة المشاريع الاستبدادية المشبوهة عبر التاريخ، ولن يتهاونوا اليوم مع مشروع “الحزب” الذي يكاد يغيّر وجه لبنان الحضاري والمتعدد.

حتماً “مش ماشي الحال” بين المسيحيين و”حزب الله”، وهم يعرفون أن الطريق إلى استرداد الدولة من “الحزب” لن تكون سهلة، وربما تتخللها أنواع عدة من المواجهات ليست كلّها سلميّة، لكن في نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح، ولا بد للحق أن ينتصر، والمشاريع الظلامية لا يُكتب لها عادة العيش طويلاً، والمنطق التاريخي يقول ان المجموعات البشرية المؤمنة بالحياة والسلام والعيش مع الآخر في ظل دولة المساواة والقانون، لا بد من أن تصل إلى أهدافها عاجلاً أم آجلاً.

شارك المقال