إنما الأمم الأخلاق…

صلاح تقي الدين

بعيداً عن الأزمة السياسية المتمثلة في عجز نواب لبنان عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، فإن ما يضيف إلى هذا الوضع السيئ سوءاً هو فقدان الأخلاق على المستويين الاجتماعي والسياسي. فالشغل الشاغل للبنانيين في الفترة الأخيرة كان حملات الترويج للمثلية الجنسية وما تبعها من مواقف مؤيدة أو ناهية عن هذا الأمر، ما جعل الناس تغرق في هذا الهم غافلة عن أن البلاد لا تزال من دون رأس وتسير على قاعدة “امشي على ما يقدر الله” بوجود حكومة تصريف أعمال ومجلس نيابي شبه معطّل.

ربما تكون القصة قد بدأت مع وصول فيلم “باربي” إلى لبنان وقرار وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى بمنع عرضه، ما استثار حمية النائب التغييري مارك ضو الذي راح يهاجم الوزير بسبب قراره ويدافع عن حرية الرأي والتعبير، فيرد الوزير ثم يرد النائب وتصبح المسألة أخذاً ورداً وتتسبب بانقسام جديد بين اللبنانيين بين من هو مع موقف الوزير ومن يؤيد موقف النائب “التغييري”.

ربما فات “جهبذ” التغيير الأستاذ ضو أن المبدأ العام والمعمول به في جميع أنحاء المعمورة هو أن “حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين”، وهو إذ يدافع عن حرية الرأي، هذا حق له وللجميع، إنما أن ينضم إلى جوقة من النواب الذين يشاركونه رأيه في المثلية ويوقع على اقتراح قانون بإلغاء المادة 534 من قانون العقوبات التي تجرّم “كل مجامعة خلافاً للطبيعة”، فهذه المسألة لم تعد تعنيه وحده، وليست مسألة حرية خاصة أو عامة.

إن الحرية حق من حقوق الحياة لكن ذلك لا يعني أنها حق مطلق وغير مشروط، إذ يجب أن تكون هذه الحرية على تماس مع حقوق الآخرين ولا تتقاطع مع حقوقهم، ولا داعي هنا للعودة إلى نصوص إنجيلية وقرآنية تحرّم المثلية، فقد أدلى رجال الدين اللبنانيون بدلوهم في هذه المسألة.

غير أن اندفاعة النائب في الدفاع عن “حق” المثلية خير دليل ومؤشر على انحلال الأخلاق والذي يعتبر من دلائل انحلال الدولة، إذ قال أمير الشعراء أحمد شوقي: “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا”، ويبدو أن الدولة اللبنانية التي انهارت مؤسساتها بفعل لاأخلاقية المسؤولين فيها، ولكي لا نعمم نقول بعض المسؤولين، تستكمل هذا الانهيار بانحدار أخلاق “بعض المسؤولين” أيضاً.

لم يتحفنا نواب التغيير بأي اقتراح قانون لتحسين انتظام حياة اللبنانيين الذين أعطوهم التفويض لكي يكونوا لسان حالهم في المجلس النيابي، ويدافعوا عن حقوقهم، ولا أظن أن المثلية تحسّن من حياتهم أو تأتي في مرتبة عليا في سلم مطالبهم.

حسناً فعل وزير الثقافة الذي تصدى لهذه المحاولة من وجهة نظر “ثقافية” واجتماعية، وأبعدها كل البعد عن السياسة وزواريبها، فجاء موقفه مدعوماً من رجال الدين المسلمين والمسيحيين على السواء، وما إعلان أحد رجال طائفة الموحدين الدروز تبرؤهم من ضو إلا دليلاً على الخطأ الجسيم الذي ارتكبه النائب التغييري والذي استفز أول من استفز رجال دين طائفته ناهيك عن مجتمعه.

وأن تنضم مؤسسة إعلامية للترويج لهذه الظاهرة المخالفة لكل قوانين الطبيعة، فقد زاد ترويجها لاعلان يتناول هذا الموضوع من الانقسام الموجود أصلاً بين من يؤيدون ومن يعارضون هذه الظاهرة، وليس مقبولاً أن تتذرع هذه المحطة بأنها وسيلة لنشر الاعلان ولا تتبناه، فبمقدورها رفض الحفنة القليلة من الدولارات التي تجنيها من نشره مقابل الالتزام بأخلاقيات المجتمع اللبناني وأدبياته الرافضة لهذه الظواهر الشاذة.

إن الالتزام بالحرية هو الانضباط في ممارستها، كما إن الحرية في ظل حدود الانضباط هي أساس لتحقيق نتائج ذات فائدة على أرض الواقع وفي مناخ من الهدوء والاستقرار، كما أن الحرية المنفلتة تصبح أحد أهم أسباب النزاعات بين الأفراد والمجتمعات بل والدول، وهي التي تفتح أبواب الفوضى على مصراعيها لتكون النتائج وتداعياتها غير محمودة.

يبدو أن المسؤولين يستمتعون بما شهده البلد في هذه الفترة من فعل وردود فعل على هذا المستوى وبعيداً عن الاهتمام الرئيس والأول على جدول أعمالهم وهو انتخاب رئيس للجمهورية، لكن شوقي قال أيضاً: “إذا أصيب القوم في أخلاقهم… فأقم عليهم مأتماً وعويلا”. ويبدو أن ما يصح على لبنان هو أن نقوم جميعاً لكي نحضر جنازة الدولة التي لن تستقيم طالما أن بعض مسؤوليها منخرط في “مؤامرات” لاأخلاقية.

شارك المقال