التمديد للفراغ الرئاسي يمدّد لنصر الله “حاكماً بأمره”

عبدالوهاب بدرخان

كلّما طال أمد الفراغ الرئاسي اتضح أن حسن نصر الله هو شاغل الكرسي الرئاسية، بالأصالة لا بالوكالة. هذا هو الفارق بين الوضع الدستوري لمجلس الوزراء خلال الشغور السابق طوال عامين ونصف العام (2014-2016)، في انتظار تطويع الطبقة السياسية والمجلس النيابي لانتخاب ميشال عون، وبين الوضع الحالي غير الدستوري الذي أطاح المكانة التي منحها اتفاق الطائف لمجلس الوزراء ورئيسه في غياب رئيس للجمهورية وفي ظل هيمنة الميليشيا على البرلمان. أما القاسم المشترك بين الشغورَين فهو أن “الثنائي الشيعي” (لم نعد نسمع كثيراً الحرص على وصفه بـ”الثنائي الوطني”) اعتمد على الرئيس نبيه برّي لإقفال المجلس أمام جلسات مفتوحة لانتخاب الرئيس، وعلى الرئيس نجيب ميقاتي لتنفيذ مشيئة الدويلة في تسيير شؤون الدولة بحيث أنه لا يستطيع أن يحلّ أو يربط إلا بعد “استخارة” لـ “حزب إيران/ حزب الله”، إما مباشرة عبر حسين خليل المعاون السياسي لنصر الله، أو بواسطة برّي.

هل هناك توصيف آخر للواقع الحالي لما يمكن أن تُسمّى “دولة” في لبنان؟ قبل شهور من نهاية العهد السابق راح عون وصهره يتلاعبان بوضع الحكومة، وقبل لحظات من وقوع الفراغ في الرئاسة الأولى أقدم الرئيس المنصرف على توقيع المرسوم الذي يبقي الحكومة في حال استقالة وتصريف أعمال، ليضمن عدم حلولها محل الرئيس، وفقاً لما ينصّ عليه الدستور، وبذلك قدّم الخدمة الأخيرة لوليّه الفقيه كي يتمكّن من التصرّف كما يفعل الآن، حاكماً بأمره. لم يقتنع عون بأن الصهر المعجزة غير قابل للاسترئاس بأيٍّ من السيناريوات التي يمكن أو لا يمكن تخيّلها، سواء كان تحت العقوبات الأميركية بتهمة الفساد أو تحت عقوبات الـ “هيلا هو…” الشعبية العابرة للطوائف والمناطق. لو كان عون رجل دولة لفكّر قبل انصرافه في هذه الدولة وشعبها، لكنه أنصت الى حلقة الحقد المحيطة به وهي تفتي بأن التلاعب بـ “شرعية” الحكومة سيجعل منه آخر رؤساء الجمهورية – ما يرضي غروره – وسيفتح ما بعده على فراغ مديد قد يجعل اللبنانيين، ولا سيما الموارنة، يترحّمون عليه وعلى عهده.

لا بدّ أن نصر الله، “الحاكم بأمره”، يتذكّر كل يوم أفضال الرئيس السابق عليه، بمقدار ما يستحسن انتهاء عهده والفراغ الذي خلّفه وفتح له فرصاً كثيرة لتعزيز حكمه المباشر أو من خلال “وسطاء” لا يملكون القرار. فالفراغ لا يجمّد الاستحقاقات المرتبطة بالخارج، لأن الدول المعنية لا تنتظر ولا تهتم بمن يحرّك دفّة بل بمن يستطيع صنع القرار، حتى لو كان “حزب إيران”، وحتى لو كان ميليشيا أو سلطة أمر واقع، طالما أنه لا يمسّ بمصالحها ويمكّنها من تسييرها. وسواء تعلّق الأمر بترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل – ولو بالتخلّي عن حقوق لبنانية، أو باللعب/ العبث مع فرنسا في الاستحقاق الرئاسي، أو بمغازلة الولايات المتحدة لمقايضة الاعتراف بسلطته وإيرانيته مقابل ما تسمّى “قواعد اشتباك” مع اسرائيل، أو بتجميد كل اتفاق مع صندوق النقد الدولي أو في شأن الطاقة… في كلّ ذلك أثبت نصر الله أن الدويلة في صعود وأن الدولة في سبيلها الى الاضمحلال.

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين الى بيروت لإبلاغ رسالة الى نصر الله، عبر بري، وليتلقّى ردّاً عليها، وبمعزل عن فحواها وأهميتها وما إذا كانت “إيجابية” لنصر الله أم لا فإن الأخير تأكد بأنه بات و”حزبه” العنوان الوحيد في لبنان، وبأن واشنطن مهتمّة بأن تسجّل إيران وصول باخرة التنقيب عن الغاز في لائحة المكاسب التي تتيحها لها أميركا. وجاء وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان لمقابلة نصر الله ووضعه في صورة المحادثات التي أجراها أخيراً في السعودية وضرورة البناء عليها وكأن الانفراج الذي ينتظره نصر الله لوضع مرشحه على رأس الجمهورية سيأتي تحديداً من السعودية. أما كل لقاءات أخرى عقدها عبد اللهيان مع مسؤولين لبنانيين فكانت فقط لزوم الديكور. وفي الأثناء أصبح لافتاً تكاثر زوار بيروت من المبعوثين الإيرانيين، ما يشير الى أن تقويم طهران للوضع اللبناني يفيد بأن احتلالها يتوطّد من المطار الى الموانئ الى المنافذ الحدودية، فضلاً عن مفاصل الدولة، تماماً كما هو الوضع في سوريا ومع نظامها، ما يستدعي انخراطاً أكبر لدوائر نظام الملالي في متابعة ما يحصل في لبنان ورعايته.

وبالطبع سيأتي المبعوث الفرنسي جان ايف لودريان حاملاً نتائج الامتحانات الخطّية التي أخضع لها معظم الوسط السياسي، على أمل أن يبني عليها مصير مهمته المتعثّرة. وقد أرسل له الرئيس برّي تحية مبكرة، مستبقاً وصوله بالدعوة الى “حوار لـ 7 سبعة أيام تليه جلسات مفتوحة لانتخاب الرئيس”، ومن دون أن يقول صراحة انه تخلّى عن مرشحه “الوحيد”. وهذه محاولة مكررة يضفي عليها برّي رداء الحكمة الطوباوية التي يعتقد أنها تعيده الى الموقع الوسطي بعدما انكشفت جوانب دوره كافةً. لكن وصول لودريان استُبق أيضاً بالمعركة الديبلوماسية التي خاضتها فرنسا في مجلس الأمن لاسترضاء نصر الله و”حزبه” في قرار التمديد لقوات “اليونيفيل”، علماً بأن المصلحة اللبنانية المنصوص عليها في القرار 1701 وكل القرارات ذات الصلة هي “بسط سلطة الدولة على كل أراضيها”، ولم يرد في أي قرار، ولا في أي ديباجة أو رسائل متبادلة أن تلك المصلحة هي في بقاء “حزب إيران” في حال “اشتباك” مع العدو الإسرائيلي واستخدام الأرض اللبنانية منطلقاً لـ”توحيد ساحات المقاومة”.

إذا كانت هذه هي الحال، هل يمكن تصوّر أن إيران وعبد اللهيان ونصر الله و”الحزب” يبحثون فعلاً عن نهاية “دستورية” للاستحقاق الرئاسي بعدما بذلوا كل جهد لإغراقه في الاستعصاء؟ نعم، إنهم يقامرون بورقة الفراغ مكشوفةً: فإمّا أن يبقى الفراغ حتى لو امتدّ لسنوات، وإمّا أن يبقى نصر الله حاكماً بأمره. أي رئيس من خارج جماعة “الممانعة” يجب أن يسعى الى توحيد اللبنانيين واستبعاد الفاسدين، وأن يعيد الاعتبار الى الدولة والمؤسسات، وأن يكون همّه الرئيس اخراج البلاد من أزمتها الخانقة، وأن ينظّف الفساد المزمن الذي أصاب الحدود والمنافذ، وأن يصلح ما خُرّب في العلاقات الخارجية خصوصاً العربية، وأن يعمل – ويستطيع أن يعمل جديّاً – على إعادة ما أمكن من النازحين السوريين الى بلادهم… لكن كلّ ذلك يناقض أجندة إيران ونصر الله و”الحزب”، ولذلك فإن شخص الرئيس وهويته والتزاماته لهم ليست مجرد تفاصيل، كما تعتقد فرنسا.

شارك المقال