إضراب القضاة…”بداية” نهاية الحكم بالعدل؟

عبدالرحمن قنديل

أكثر من مئة وعشرة قضاة أعلنوا التوقّف القسري عن العمل، في بيان لهم، ما يعيد الموضوع إلى المربع الأول مع الاعتكاف الذي شهدته قصور العدل قبل أشهر وتعطّلت خلاله مصالح المواطنين على المستوى القانوني والخدماتي.

على وقع انهيار اقتصادي عام 2019 لم يوفر قطاعاً من تداعياته، لم يسلم الواقع القضائي من هول الانهيار الكارثي الذي نال نصيباً لا يستهان به جعله يدفع الثمن حتى أيامنا هذه خصوصاً مع إشتداد الأزمة التي عصفت بلبنان من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والإشتباك السياسي الذي رافق الأزمة وساهم في تعزيزها وترسيخها.

الضربات التي تعرض لها القضاة لا يقل حجمها عن إنعكاسات هذه الأزمة على أي مواطن لبناني دفع الثمن منذ العام 2019 ولا يزال يسدد فاتورتها مع تطوراتها على المستويات كافة.

شبيب: وضع القضاة يعد من الأسوأ

وأوضح القاضي زياد شبيب في حديث لموقع “لبنان الكبير” أن “القضاة من كل القطاع العام في لبنان، ووضعهم يعتبر من الأسوأ ومع الدخول في سنة قضائية جديدة وعودتهم الى ممارسة أعمالهم في المحاكم، شاهدوا كيف وصل بهم الحال إلى وضع مزرٍ وحتى التدابير المؤقتة التي اتخذها مصرف لبنان لزيادة ولو طفيفة على قيمة رواتبهم يبدو أنها في موضع إعادة نظر أو شكوك في إستمراريتها، باعتبار أن كل التدابير التي اتخذها مصرف لبنان لتأمين بعض المداخيل أو الاعتمادات لهذه القطاعات أو تلك أدت إلى تغيير سياسة المصرف المتبعة بخصوصها بالاضافة إلى تقديمات صندوق تعاضد القضاة التي ذكرها البيان كالطبابة والاستشفاء أتت بالتزامن مع بداية السنة القضائية الجديدة وبداية عام دراسي”.

وعلى صعيد مشكلة العام الدراسي، لفت شبيب الى أن “القضاة الذين لديهم أولاد سيتسجلون إن كان في المدارس أو في الجامعات، أصبح صندوق تعاضد القضاة شبه عاجز عن تقديم التغطية التي كان يقدمها لنوع كهذا من الاحتياجات، بالإضافة إلى مشكلة الطبابة التي يبدو أن مصير الاعتمادات التي أمنها صندوق تعاضد القضاة في الأشهر الماضية للطبابة والتعاقد مع بعض المستشفيات الكبيرة لتأمين طبابة القضاة، مصيرها غير واضح وذلك بسبب عدم إقرار الموازنة، ولا السلفة التي كانت من المفترض أن تقدمها الدولة من خلال الموازنة لصندوق تعاضد القضاة لكي يستطيع تأمين الطبابة لهم، ومن هذا المنطلق هناك علامات إستفهام كبيرة تحوم حول وضع القضاة المعيشي أدى إلى عدم القدرة على الاستمرارية في ظل هذه الظروف”.

وتطرق إلى عامل أساس وهو وضع قصور العدل من خلال البعد اللوجيستي، مشيراً أن “أي مواطن أو متقاضٍ لديه جلسة أو مراجعة لا يستطيع تحمل الأوقات التي يقضيها في قصر العدل بسبب غياب الكهرباء والمضافة أو أي مقومات أخرى. فكيف لهذا القاضي الموجود لممارسة أعماله إن كان من خلال الدوام أو المراجعات بكل أريحية القدرة على الصبر والاستمرار في ظروف كهذه لوجيستيّة تعجيزيّة؟”.

وقال شبيب: “هذه مشكلات كبيرة على مشارف العام القضائي الجديد من كل نواحي عمل القضاة إن كانت اللوجيستية، أو المادية، أو حتى من خلال الضمان الاستشفائي والتعليمي باتت شبه منعدمة، وسط هذه الأجواء تصاعدت اللغة المطلبية المحقّة لأن الحد الأدنى على الأقل من هذه الحقوق من المفترض أخذه في الاعتبار من خلال تأمينه لتستطيع السنة القضائية أن تبدأ”.

وأكد أن “المطلوب من القضاء كثير وهو من يحمل الأعباء التي ترمى عليه في البلد باعتباره المدخل للمحاسبة الحقيقية ولاستعادة الحقوق على الرغم من كل التساؤلات وعلامات الاستفهام التي تطرح من وقت إلى آخر حول فعالية القضاء وتقصيره من عدمه، ولكن لا يمكن أن يكون هناك مدخل آخر لاعادة ترميم المؤسسات وثقة المواطن إلا من خلال القضاء، فكيف يمكن المراهنة على دوره وليست هناك وسيلة تأمين للقاضي بأن يدخل إلى العدلية ويجلس في مكتبه أو في قاعة المحاكم ويمارس عمله وهو لوجيستيّاً غير قادر على أن يقوم بهذا العمل؟”.

ورأى أن “الأزمة هي نتيجة لهذا الواقع القضائي، إذ قبل الأزمة كانت أوضاع القضاة مقبولة ماديّاً ولوجيستيّاً وحتى تقديمات صندوق تعاضد القضاة كانت تحترم حاجات القاضي وعائلته، ولكن بعد الأزمة إنهار كل شيء في البلد فانهار الوضع على هذا الصعيد”، معتبراً أن “من غير الممكن معاملة القضاء بهذه الطريقة”.

وأعرب شبيب عن إعتقاده أن “هناك الكثيرين من السياسيين ينسون أو يتناسون أن القضاء هو سلطة دستورية مثله مثل باقي السلطات في البلد كالسلطة التشريعية والتنفيذية، ولا يجوز التعاطي معه بصورة فوقية أو دونية لأن القضاة يتقاضون راتباً ولديهم حقوق وظيفية، فالقاضي يتولى سلطة دستورية ضمن السلطات الثلاث ولا بد من إحترام دوره وعدم الاستخفاف به وإهدار حقوقه، بالإضافة إلى نهج الاهمال المتبع من الدولة، ولكن هناك بعض القضاة المرتبطين كأفراد بالسلطات السياسية مشاركون في إبقاء نهج الاهمال والتراخي في القضاء موجوداً على الرغم من أنهم أقلية داخل الجسم القضائي، لأن الأكثرية الساحقة من القضاة تتمتع باستقلالية ووعي لأهمية دورها ولكن لا تعيّن في مراكز قيادية إلا إذا أدت فروض الولاء والطاعة السياسية”.

وكشف أن “إحتجاز حقوق القضاة أو المس بها هو وسيلة لإحكام السيطرة على القضاء الذي هو بالنسبة الى هذه الطبقة السياسية الحاكمة مصدر خطر، فإذا تم تحرير القاضي من الحاجات الأساسية التي تكبله وتمنعه من العمل يصبح قادراً على ممارسة عمله بإستقلالية”، منبّهاً على أن “العدالة إذا تعطلت كالاعتكافات السابقة التي شهدها السلك القضائي وإنعكاساته فستؤدي حكماً إلى تعطيل مصالح المواطنين، لهذا السبب البلد لا يحتمل أن يتوقف عمل المحاكم والنيابات العامة”.

غانم: مبدأ إستقلالية القضاء يزعج الدولة

وشدد الرئيس السابق لمجلس القضاء الأعلى القاضي غالب غانم على أن “هناك تقصيراً كبيراً من الدولة، فهي في موقع المتفرّج في ظل التزعزع الذي يشهده القضاء وكأن هذا الأمر لا يعنيها ليس من النواحي المادية فحسب إنما من الوجهة المعنوية أيضاً، إنطلاقاً من إستقلالية القضاء وعدم جديّة المسؤولين في النظر إلى هذا الأمر”.

واعتبر غانم أن “مبدأ إستقلالية القضاء يزعج الدولة من خلال التعمد في إضعاف دوره وفاعليته ما جعله في وضع صعب للغاية نتيجة الاهمال”، مؤكداً أن “القضاء لم يعد بخير وذلك ناتج عن تقاعس السلطة السياسية في هذا الملف على مدى سنوات، فدور هذه السلطة لم يكن الدور الذي يجعل القضاء محصّناً لتتحسن أوضاع القضاة فيه وهذا ما يجعلهم يذهبون بالأمور إلى السلبية”.

واذ رأى أن “الحل يجب أن يكون من خلال إعادة نظر شاملة في موضوع القضاء إن كان داخلياً أو من خلال المسؤولين السياسيين، فيقظة الضمير مطلوبة من الطرفين لاعادة تنظيم مساره نحو السكة الصحيحة”، أشار الى أن “وزارة العدل ليس لديها إمكان العمل بمفردها للحل في هذا الموضوع من دون السلطة السياسية عموماً”، موضحاً أن “هذه الأزمة والذهنية السلبية المتبعة تجاه القضاء هي فعل تراكمي لعقود بالاضافة إلى الأوضاع الإقتصادية السيئة التي زادت الطين بلة حالها كحال معظم العاملين في القطاع العام”.

في بلد الفراغ فيه ينهش مؤسسات دولته من رأس هرمها إلى أسفله وسط أزمة لا ترحم وشعب تعوّد الخطر، بات القضاء على وشك التفكك، في ضوء لامبالاة سياسيين همهم مصالحهم وانشغالهم بتفاهات خلافاتهم ولو كانت على حساب القضاء وتعطيل حياة المواطنين ومصالحهم، ونتيجة ذلك “خربان بيوت”.

شارك المقال