لبنان في مهب التصعيد السوري… فماذا ينتظرنا؟

جورج حايك
جورج حايك

منذ انتكاسة العلاقات بين دول الخليج والنظام السوري من جهة والتموضع العسكري الأميركي الجديد في الشمال السوري من جهة أخرى، تشهد الساحة السورية تصعيداً ملحوظاً في اتجاهات عدة، ويبدو أن وتيرة الأحداث تتسارع على نحو يُنذر بهبوب رياح التغيير في المنطقة التي قد تلفح لبنان المأزوم أصلاً، وربما التأثير السوري بدأت تظهر ملامحه في لبنان من خلال موجة نزوح جديدة تزيد الضغط على الشعب اللبناني الذي يعاني من العدد الكبير للاجئين السوريين بعدما بلغوا ما لا يقل عن مليوني لاجئ!

وهنا لا بد من السؤال: ماذا يحصل في سوريا؟

القصة بدأت مع اجراءات الدول الخليجية التي اتُخذت في الانفتاح على نظام بشار الأسد ما سبّب موجةً من الغضب والتشكيك لدى قسم كبير من الرأي العام العربي، بدءاً من الشعب السوري المعارض لبقاء الأسد والرافض لأي تطبيع عربي أو غير عربي معه.

وغداة خطوات التطبيع الأولى المتمثّلة في قرار جامعة الدول العربية بعودة سوريا لإشغال مقعدها، ومن ثم دعوة الأسد الى حضور القمة العربية في جدّة، مروراً بسفره الى سلطنة عُمان فدولة الامارات وروسيا، نشطت اللوبيات السورية والعربية المناهضة للأسد في أروقة القرار الأميركي لشنّ حملة مضادة للتطبيع الجاري في خطواته الأولى، فنجحت في تحريك المياه الراكدة في واشنطن، لا لكون الأخيرة يهمها ما يهم تلك اللوبيات في منطلقاتها، بل انطلاقاً من حسابات أميركية متعدّدة الجوانب ومتشعّبة المفاعيل والتأثيرات إقليمياً ودولياً في ظل حالة التوتر والحرب الدولية التي نعيشها على أكثر من جبهة وأكثر من محور. فكان الدفع في واشنطن وبخطى سريعة ومتسارعة نحو إقرار قانون يمنع التطبيع مع نظام الأسد ويعاقب الدول المطبِّعة معه.

إلا أن ضغوط واشنطن لم تثنِ الدول العربية عموماً والخليجية خصوصاً عن مد اليد إلى نظام الأسد واعطائه فرصة لإثبات حسن نواياه وتنفيذه بعض الشروط الأساسية لاستكمال التطبيع، ومنها اثبات استقلاليته عن إيران والقيام بإصلاحات دستورية وداخلية وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ومكافحة تهريب المخدرات إلى الخارج، إلا أنها سرعان ما اكتشفت أن بشار الأسد فاقد القرارات السياسية والأمنية والاقتصادية والسيطرة على الحدود، ما يجعله عاجزاً عن الاستجابة لمطالب الأسرة العربية، وذلك تحت ضغط إيران و”حزب الله”.

تهاوى التطبيع العربي رويداً رويداً، وعادت العلاقات السورية – العربية إلى نقطة الصفر، وتكرّست سطوة النفوذ الايراني على نظام الأسد، وهذا ما جعل سوريا مجدداً تستعد لتطورات دراماتيكية، إذ تحوّلت بفضل نظام الأسد الى أرض مواجهة دولية وليس إقليمية فقط، فالساحة السورية مفتوحة الآن على شتى الصراعات: الأميركية – الروسية والأميركية – الإيرانية والتركية – الروسية والتركية – الإيرانية – السورية، الى ما هنالك من أوجه صراعات تحتضنها الأرض السورية للمتنازعين الاقليميين على امتداد مساحتها الجغرافية.

لكن الخطين الخطرين اللذين يتحكمان بمصير النظام السوري اليوم هما: الخط العسكري الأميركي من جهة، وخط تأجج ما يشبه الانتفاضة الداخلية على خلفيات معيشية من جهة أخرى.

الخط الأول الأميركي العسكري يتمثّل في وصول القوات الأميركية الى شرقي الفرات والهدف المنظور هو القضاء على الدور الإيراني في سوريا عبر إغلاق المعابر الشرقية لسوريا مع العراق أمنياً وعسكرياً، كما إغلاق طريق التوريد الايراني الى دمشق وحكومة الأسد.

واشنطن لم ترسل حاملات طائراتها وأسطولها وترسانتها الى المنطقة من أجل لا شيئ، حتى أن زيارة رئيس هيئة الأركان الأميركية شخصياً الى شرق الفرات لم تأتِ من أجل لا شيئ. لكن لا أحد حتى الساعة يعلم بتوقيت بدء العمليات العسكرية في شرق سوريا، إلا أن ما هو واضح أن الاستعدادات باتت على أكمل جاهزيتها بين الأميركيين وحلفائهم في المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية.

النظام في دمشق عالمٌ بهذا المخطط ويتداول به في قنوات النظام بحيث يجري الحديث عن هجوم متوقع شرقي الفرات وربط المنطقة بالتنف، فالبوكمال والقنيطرة والجنوب، لحصر الدولة السورية ومنطقة النظام في مربع حيث يُترك ليتهاوى وحده مع الوقت من دون أي تدخّل عسكري مباشر ضده من الخارج.

هذا المخطط اذاً ليس من شأنه تغيير النظام في سوريا لأن الوقت الذي ستستغرقه العمليات العسكرية قد يطول وسيدفع الشعب السوري الثمن الأغلى طوال هذه الفترة.

أما في المعلومات الديبلوماسية، فلا نية لدى أميركا وأوروبا والعرب لكسر النظام في دمشق عسكرياً، بل هناك نية لخنقه مع مناطقه اقتصادياً وزيادة العقوبات عليه، بالاضافة الى تطويقه عسكرياً من خلال مخطط العمليات العسكرية شرقي سوريا، بحيث يُترك النظام ومناطق نفوذه لمصيرهم مع ترحيل العمل العسكري ضدهم لسنة أو سنتين وربما أكثر.

واشنطن تريد زيادة ضغط العقوبات والحصار على النظام من دون التدخّل عسكرياً لـ”قبعه” حتى يسقط تلقائياً ويتحقق مراد الشعب السوري، فخلع النظام السوري هدف استراتيجي ولكن لا موعد محدّد ولا برنامج زمني الى الآن لتحقيق هذا الغرض.

أما الخط الثاني المتأجج داخلياً فقد بدأ في 10 آب من خلال حراك شبابي ومجتمعي سوري مدني قوامه أناس ضاقوا ذرعاً بالمرحلة المأساوية التي أوصلهم اليها النظام السوري ولم يعد بالإمكان السكوت عنها، في ظل أجواء حقد وطائفية واقتتال وتجارة ممنوعات ودعارة وإفلاس وسقوط التعليم وغلاء وفقر وحرمان من كل مقومات الحياة الكريمة والمعيشية الانسانية والحرية في ظل وضع اقتصادي مهترئ وانهيار لليرة السورية واستباحة البلاد إيرانياً وروسياً وتركياً وأميركياً وإسرائيلياً.

هذه الحركة تحمل شعارات مدنية سلمية انطلقت من قلب مناطق النظام ومن حاضنته الطائفية والمذهبية في جبلة والقرداحة والسويداء ومناطق سورية أخرى لكن من دون سلاح ولا تسلّح، بل عبر الشعارات المناهضة للنظام بما يقضّ مضجعه ويجعله في حال خوف وقلق.

أمام هذا الواقع السوري الذي أصبح ناراً تحت الرماد، يعيش لبنان حالة ترقّب لتأثيرات تطوّر الأحداث في سوريا وتداعياته، وأولى ملامح هذه التداعيات كانت موجة نزوح سورية جديدة شهدها لبنان عبر المعابر غير الشرعية، نتيجة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية البائسة هناك أولاً، وقيام الاستخبارات الأسدية بحملات دهم منازل الناس في مناطق الاحتجاجات للتفتيش عن قادتها والمشاركين فيها واعتقالهم، وهذا ما يبرر هروب الكثيرين من سيف الاعتقال المصلّت على رقابهم ثانياً.

وتشهد الحدود اللبنانية – السورية الشرقية والشمالية البالغ طولها حوالي 375 كيلومتراً حركة تهريب على معابر غير شرعية عبر عصابات ناشطة تتقاضى مبالغ تتراوح بين 200 و400 دولار عن الشخص الواحد، وذلك على الرغم من تكثيف الأجهزة الأمنية اللبنانية إجراءاتها لرصد أعمال تهريب الأشخاص والبضائع وملاحقتها! هذا الوضع سيزيد من حالة البؤس في لبنان الذي يقيم فيه ما لا يقل عن مليونين و80 ألف سوري يشكلون ضغوطاً اجتماعية واقتصادية وأمنية على لبنان علماً أنه يواجه أزمة اقتصادية ومالية حادة منذ العام 2019.

ولا شك في أن الانتفاضة السورية الداخلية إذا استمرت بزخمها قد تؤثر على استمرارية النظام السوري الذي قد يؤدي إسقاطه إلى إضعاف “حزب الله” في لبنان، إذ يكون قد فقد حليفه الأساس، وهذأ أمر مستبعد في الوقت الحاضر، إلا أن لا شيئ مستحيل سياسياً وعسكرياً وخصوصاً في ظل انشغال روسيا الداعمة الأولى للنظام في حرب أوكرانيا ومواجهة الغرب.

من جهة أخرى، يمكن القول ان “حزب الله” يتحسّس رأسه، فهو يمثّل احدى الميليشيات الإيرانية الموجودة في سوريا وقد باتت محاصَرة ومعزولة عن عمقها العراقي الإيراني …فمعبر البوكمال الذي طالما شكًل همزة الوصل الوحيدة في تحقيق الهلال الشيعي من العراق الى لبنان بات خارج الخدمة ما أدى الى قطع آخر منافذ التواصل مع النظام السوري. أما في بيروت، فيتجهز “الحزب” لاستقبال الهاربين من دير الزور وقد ألمح الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله الى هذا الاحتمال، ما سينعكس تصاعداً للتوترات اللبنانية الداخلية.

ويبدو أن واشنطن بذلك قررت عزل الخطوط البرية بين العراق وإيران من جهة، وسوريا ولبنان من جهة أخرى، لوقف الدعم اللوجيستي الإيراني للفصائل في سوريا. الضربة الأميركية ستكون على الحدود السورية مع العراق فيما ردود الفعل ستكون في العراق ولبنان، فلواشنطن ٢٧ فرقة عسكرية في سوريا وأكبرها في حقل العمر الذي يبعد ١٠ كيلومترات عن مدينة الميادين في دير الزور السوري والقاعدة الاستراتيجية في التنف.

لا يختلف اثنان على أن الاقفال الكلي لمعبر البوكمال في الشرق سيؤثّر على الوضع اللبناني الداخلي في غرب سوريا إن قرّر “حزب الله” مجدداً التدخّل في سوريا واستباحة الحدود اللبنانية – السورية بحجة الدفاع عن مقدّسات أو مقاومة إسرائيل وأميركا. والأكيد أن “الحزب” ولواء القدس يدفعان بتعزيزات عسكرية جديدة الى البوكمال والميادين ما ينبئ بتورط جديد في أي مواجهة مع الأميركيين تمليه عليهم القيادة الإيرانية بالواسطة.

واللافت أن “الحزب” ينظر بارتياب الى ما يحصل في سوريا انطلاقاً من السويداء، ويعتبر أن المستهدَف هذه المرة ليس نظام الأسد بل الوجود الشيعي في سوريا. من هنا، يمكن فهم ما أشاعه “الحزب” منذ أسابيع من إلقاء القبض في الضاحية الجنوبية على عناصر “داعشية” مزعومة، إذ إن عودة العزف على وتر “داعش” واعتبار البقاع الحدودي مع سوريا وجرود عرسال وغيرها ملاذاً لتسلل الدواعش ووجودها يمهّد الطريق أمام عودة التدخّل العسكري والأمني من بوابة الحدود اللبنانية – السورية.

في المقابل، لا بد من طرح السؤال الآتي: ماذا يمكن أن يكون الموقف الدرزي – اللبناني الداخلي إن تدخّل “الحزب” في سوريا دعماً للنظام ضد السويداء أم إن في السويداء حسابات أكبر من تدخّل “الحزب” وهي روسية وإسرائيلية تحديداً؟

تبقى الأيام والأسابيع المقبلة حافلة بالتطورات في سوريا، لكن الأكيد أن لبنان بسبب معادلة “وحدة الساحات” التي يتبناها محور الممانعة، سيكون في عين العاصفة السورية، لكن من يدري؟ قد تؤدي التحوّلات في المنطقة على الخط السوري الى إجبار “الحزب” المنفّذ للسياسة الايرانية على التراجع، ما يصبّ في خدمة قيام دولة فعلية للبنانيين جميعهم.

شارك المقال