مصالحة الجبل تتويج لانتخابات 2000 ونداء المطارنة

زياد سامي عيتاني

أسهم البطريرك الراحل الكاردينال مار نصر الله بطرس إسهاماً فاعلاً في التوصل إلى “اتفاق الطائف”، في تشرين الأول من العام 1989، الذي صار دستور الجمهورية اللبنانية، حتى لقب حينها بـ “بطريرك الطائف”، بعدما وفر “مظلة الأمان الكنسي” للنواب المسيحيين المشاركين في المؤتمر، الذي عقد في المملكة العربية السعودية للتوصل الى اتفاق ينهي الحرب اللبنانية، على الرغم من الحملة العنيفة المناهضة والرافضة التي شنّها عليه الجنرال ميشال عون. وما دفع صفير الى المضي في طريق “جلجلة” القبول بـ”إتفاق الطائف”، تضمينه فقرة تنص على بدء انسحاب القوات السورية من لبنان بعد عامين من وضع الاتفاق.

وعلى الرغم من إقرار “الطائف” ووضعه موضع التنفيذ (إنتقائياً)، من دون إنسحاب الجيش السوري، بحجة عدم انسحاب الجيش الاسرائيلي، مع العمل على تقوية “حزب الله” عسكرياً، بذرائع تتعلق بدوره المقاوم للعدو الصهيوني(!)، فقد يكون البطريرك صفير شعر حينذاك في قرارة نفسه بأنه خدع أو ضلل، عندما قرر تبني “الطائف” وتوفير الغطاء المسيحي له، وهذا ما كان يدفعه بين الحين والآخر الى المطالبة بتطبيق كل بنوده من خلال نبرة هادئة تحمل ضمنياً ضرورة الشروع في إنسحاب القوات السورية تدريجاً، وذلك على سبيل تأكيد موقفه المبدئي من ذلك، مع معرفته أن ذلك لن يتحقق في المدى المنظور، مكتفياً بتسجيل موقفه، على قاعدة “اللهم اشهد اني بلغت”، بانتظار اللحظة المناسبة لتحقيق هذا المطلب الجوهري بالنسبة الى الكنيسة المارونية.

في العام 2000، جاءت اللحظة السياسية المناسبة التي انتظرها البطريرك صفير للمطالبة الصريحة بخروج القوات السورية من لبنان لأن الوقت حان لذلك، في ضوء إنسحاب العدو الاسرائيلي من لبنان، وبالتالي زوال الإحتلال، الأمر الذي يسقط الذريعة التي كانت تتحجج بها سوريا للابقاء على جيشها في لبنان. ففي يوم الأربعاء في 20 أيلول 2000، عقد المطارنة الموارنة اجتماعاً في المقر البطريركي في بكركي، برئاسة البطريرك صفير، وأطلقوا في ختامه النداء التاريخي، أن الأوان آن لانسحاب الجيش السوري من لبنان، بعدما حصل انسحاب الجيش الاسرائيلي منه في 25 أيار. ومن ذلك اليوم، باتت بكركي مرجعاً سيادياً وطنياً لتؤسس بذلك لكل مراحل استعادة “السيادة والحرية والاستقلال” التي توجت بعد إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري بإنتفاضة وطنية جامعة عارمة، تمكنت من إخراج الجيس السوري نهائياً من لبنان.

عندما جاهر البطريرك صفير بالمطالبة بانسحاب الجيش السوري، وجد كلامه الصدى المناسب عند وليد جنبلاط، الذي وقف في مجلس النواب مؤيداً مطلبه، ما عرضه إلى حملة شتائم وتهديدات بالقتل، ولكنه لم يتراجع. هذا التحول الكبير، جعل السلطة الجديدة في سوريا (تسلم بشار الأسد الرئاسة بعد وفاة والده حافظ) تتحسب لما يمكن أن يقوما به، فنظرت بريبة كبيرة الى ما أعلنه البطريرك صفير 2000 وتأييد جنبلاط له، خصوصاً أنه أتى بعد الانتصار العارم الذي حققه تحالف الرئيس الشهيد والنائب جنبلاط في الانتخابات النيابية، فاعتبر النظام السوري أن التحالف بينهما في تلك الانتخابات أصبح خطراً عليها مع انضمام البطريرك صفير إليه ومعه “لقاء قرنة شهوان” الذي تتمثل فيه قوى المعارضة المسيحية.

هذا المسار التحولي في الواقع السياسي اللبناني، عرف وليد جنبلاط كيف يتلقفه، لانهاء الآثار والذيول الكارثية لحرب الجبل، التي تسببت بتهجير غالبية أهالي القرى والبلدات المسيحية. وجد جنبلاط أن كسر حاجز الخوف، يقتضي إتخاذ قرارات جريئة، فقرر العمل على طي صفحة حرب الجبل، معتذراً بجرأته المعهودة عما إرتكب من جرائها، داعياً الى اعادة التعايش الدرزي – المسيحي الى الجبل، مستذكراً حرص كل من الرئيس كميل شمعون والمعلم الشهيد كمال جنبلاط على تحييد الجبل عن خلافاتهما السياسية، حرصاً على خصوصية الجبل المجتمعية. ولتحقيق غايته، فتح أوسع قنوات التواصل مع البطريركية المارونية، تحضيراً لمصالحة الدروز والمسيحيين برعاية البطريرك صفير. كذلك، بدأ جنبلاط وللغاية نفسها الانفتاح على الأحزاب والشخصيات المسيحية، لتأمين أوسع مشاركة سياسية وشعبية في المصالحة التي يحضر لها، ولاقت تلك الأحزاب والشخصيات جنبلاط في منتصف الطريق، حتى صارت جزءاً من الفريق الذي يعمل على وضع برنامج المصالحة. وبعد وضعه، والتحضير لها سياسياً وشعبياً ولوجيستياً، تم تحديد الموعد (تأجل عدة مرات)، بعدما إتخذ البطريرك صفير قرار القيام بزيارة تاريخية الى الجبل تستمر أربعة أيام، لرعاية المصالحة، ودعوة المسيحيين للعودة الى قراهم.

في صبيحة الثالث من آب 2001 بدأت زيارة البطريرك صفير الى الجبل لتكريس المصالحة ومباركتها، والتي سميت بـ”مصالحة الجبل”، وأصبحت تاريخاً محفوراً في تاريخ الأحداث الكبرى في لبنان، التي أسست لتحولات كبرى. المحطة الأبرز في زيارة البطريرك صفير الى الجبل، والتي كانت بمثابة ولادة وطن واستقلاله ويوم عيد وطني، هي لا شك في الرابع من آب، عندما توجّه موكب الراحل الكبير إلى المختارة لإعلان المصالحة التاريخية والتي هي دستور ووثيقة تاريخية وحقبة ناصعة من تاريخ لبنان وجبله. ففي باحة قصر المختارة في ذلك اليوم كان العرس الوطني عندما تمّت المصالحة التاريخية وسط حشد سياسي وشعبي وديني لن ينساه أهل الجبل واللبنانيون. في هذه الخطوة المتقدمة للبطريرك صفير برعاية المصالحة بين الدروز والمسيحيين جنباً إلى جنب مع الزعيم جنبلاط، جسّد تاريخاً متكاملاً وطنيّاً وسيادياً واستقلالياً. وأصر البطريرك وبالتنسيق مع جنبلاط، على أن يختم جولته بمحطة أخيرة في بلدة الكحالة، نظراً الى رمزيتها في الوجدان المسيحي، لا سيما خلال سنوات الحرب الأهلية، إذ كانت خط تماس فاصلاً بين المتحاربين، بحيث كان يعتبرها المسيحيون السد المنيع، في منع تقدم القوات المشتركة اللبنانية – الفلسطينية باتجاه المناطق المسيحية، لا سيما تلك المناطق التي يقع فيها القصر الجمهوري ووزارة الدفاع. وأعد في البلدة إستقبال شعبي حاشد للبطريرك على وقع قرع أجراس الكنائس، وعمدت الحشود الشعبية الى اطلاق هتافات ضد النظام السوري ورئيس الجمهورية إميل لحود.

هذه المصالحة كانت صفحة مشعّة من التاريخ الوطني للبطريرك صفير، الذي أرسى مصالحةً كانت بمثابة الحلم بعد أحداث مؤسفة وأليمة، واستطاع أن يعيد المسيحيين إلى أرضهم وإلى أهلهم من الدروز ومن كل الطوائف، ويعيد الى جبل لبنان خصوصيته التعايشية من خلال نسيجه الإجتماعي.

“مصالحة الجبل” أسست لمرحلة حراك وطني شامل وجامع، بلغت ذروتها عقب إغتيال الرئيس الحريري، فكانت ثورة الأرز، التي كرّست الاستقلال الثاني (الذي لم يكتمل)، وأنهت عهد الوصاية السورية، قبل أن تستبدل بالوصاية الايرانية، من خلال هيمنة “حزب الله” بسلاحه على القرار السيادي اللبناني!

شارك المقال