جنبلاط المراقب!

صلاح تقي الدين

عندما أعلن الرئيس السابق للحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط، أنه قرر تسليم نجله رئيس “اللقاء الديموقراطي” كوفية المختارة والتخلي له عن المقعد النيابي الذي شغله منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، اعتقد الجميع أن بيك المختارة اختار فعلياً ما كان يصبو إليه منذ فترة طويلة وهو التقاعد عن العمل السياسي اليومي واللجوء إلى هوايته المفضلة المتمثلة في القراءة والسفر، غير أن البيك “الكبير” سواء تقاعد أم لم يفعل، لا يزال يشكل محور اهتمام جميع القوى السياسية وقالها بالفم الملآن الجمعة الماضي لدى استقباله البطريرك بشارة الراعي في المختارة: “أنا لا أزال هنا”.

لم يكن بنية وليد بيك العودة إلى لعب الدور المحوري في سياسة المختارة أو الحزب “التقدمي الاشتراكي” أو من خلال الموقع النيابي، فهذا الدور أناطه بنجله تيمور وكان جاداً في اتخاذ هذه الخطوة، غير أن زيارة البطريرك الراعي برفقة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ سامي أبي المنى التي كانت بهدف تثبيت المصالحة التاريخية التي رعاها مع الراحل البطريرك نصر الله صفير، استوجبت أن يكون المضيف والمتحدث ولو أنه أطلق على نفسه صفة “المراقب”.

بطبيعة الحال، لا تزال الهالة التي تحيط بالزعيم الاستثنائي بالنسبة الى غالبية الدروز طاغية، ولا يزال حضوره أو غيابه يشكّل مادة دسمة للاعلام كالعادة، فهو كان مالئ الدنيا وشاغل الناس طيلة أربعة عقود، وكان إذا انكفأ تساءلت الصحافة لماذا، وإذا أطلق مواقف، راحت الأقلام تحلل وتجتهد في تفسير مواقفه. وهذا ما حصل بعد أن ألقى كلمته في حضرة البطريرك وشيخ العقل، فكثرت المقالات والتحليلات حول من قصد وليد بك في خطابه، ولماذا تقصّد توجيه الانتقادات إلى الفريق الذي يفترض أنه مع نجله تيمور في جبهة المعارضة.

واستناداً إلى مصدر اشتراكي مقرب من “البيك الكبير”، كانت المناسبة على أهميتها في إعادة التذكير بالمصالحة ووجوب الاستمرار في صونها وصيانتها، فرصة لكي يضع النقاط على الحروف، وهذا ما فعله على جري عادته.

ويضيف المصدر: “من الواضح اليوم أن الأزمة الكبيرة التي نعيشها تتلخص في رفض فريق وازن من اللبنانيين اللقاء والحوار مع الفريق الآخر، وأعني الفريق الرافض الجلوس إلى الطاولة مع حزب الله. لا يمكن أن يستمر الوضع على ما هو عليه. لقد أصبح جلياً أن الحوار هو الحل الوحيد للخروج من هذه المعضلة، خصوصاً في ظل المجلس النيابي الحالي ونتائج الانتخابات التي لم تفرز أكثرية واضحة”.

ويشدّد المصدر الذي رافق وليد جنبلاط في أحلك الظروف العسكرية والسياسية، على أن جنبلاط “حتى في خضم أقسى المعارك العسكرية لم ينقطع عن الحوار مع الفريق الآخر، وبعد اتفاق الطائف، كان النهج الذي اختاره قائماً على الحوار للوصول إلى تسويات، ولا ننسى أن المعلم الراحل هو صاحب مقولة علمتني الحقيقة أن أعشق جمال التسوية. كيف يمكن الوصول إلى تسوية من دون حوار؟”.

وكان وليد جنبلاط وجه سهامه إلى “أصوات النشاز التي تصرّ على نبش القبور وتنسى صفحات العيش المشترك المجيدة للجبل والوطن”، كما وصف معارضي الحوار بأنه “ليس هناك أغبى أو أسخف لكن أخطر ممن ينادون بالفراغ، ولا يسهّلون موضوع الانتخابات الرئاسية”.

“إن اللبيب من الاشارة يفهم”، هذه هي طريقة وليد جنبلاط في تمرير رسائله، وليست هناك حاجة الى تفسير كلامه الذي كان واضحاً لمن يوجهه، لكن الجرأة التي ميّزته دائماً هي قوله ما “لا يجرؤ الآخرون على قوله” خصوصاً في حضرة البطريرك الراعي المعني مباشرة بالفريقين المعنيين بكلام جنبلاط.

لم يعد بإمكان “المسيحيين” الزعم بأن انقسامهم صحي وطبيعي انطلاقاً من قاعدة “التعددية”، فرئاسة الجمهورية تعنيهم بالدرجة الأولى ليس داخلياً فحسب، بل حتى إقليمياً إذ إن رئيس الدولة اللبنانية الماروني هو الرئيس المسيحي العربي الوحيد، والنهج “الانتحاري” الذي يسلكه الموارنة قد يوصلهم إلى خسارة هذا الامتياز. والأهم من ذلك، أن التاريخ أثبت من دون مواربة أن المسلمين في لبنان يهتمون بالمحافظة على الوجود المسيحي ودورهم أكثر من المسيحيين أنفسهم، ولا يشكل وليد جنبلاط استثناء في ذلك.

إن “المراقب” وليد جنبلاط لا يزال قادراً على التأثير في السياسة اللبنانية حتى لو كان “يراقب” الأوضاع والتطورات من دون أن يكون له دور “مباشر”، وما الحديث الذي يروّجه “المتضررون” حول خلاف في وجهات النظر بينه وبين نجله سوى لذر الرماد في العيون، فالقاعدة الأساسية التي نشأ عليها رئيس “اللقاء الديموقراطي” النائب تيمور جنبلاط لم تتغير منذ أربعة قرون ومستمرة، ويمكن العودة إلى خطاب وليد جنبلاط في الذكرى الـ40 لوفاة المعلم كمال جنبلاط لدى تسليم تيمور “كوفية” الزعامة، للتأكد من أن الخط العام قائم ومستمر.

شارك المقال