في ذكرى اليوم الوطني السعودي، تعود الى الأذهان عبارة مؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز آل سعود “من مسّ لبنان فقد مسّ نجد”، في حديثه عن لبنان وعلاقته الخاصة به التي تفوق المصالح المادية والديبلوماسية. انها ثنائية الرياض وبيروت التي لمعت منذ عقود عديدة حتّى أصبحت المملكة منارة مصيرية تضيء محطات لبنان.
ومن أبرز المحطات التي ربطت البلدين وعززت بين الشعبين:
أزمة تشرين الثاني من العام 1943 بين الحكومة اللبنانية والانتداب الفرنسي، وطالبت آنذاك المملكة العربية السعودية بإطلاق سراح رئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح، والوزراء والنواب المعتقلين. انطلقت المشاورات حينها لاطلاق جامعة الدول العربية بين العامين 1944 و1945، بحيث كان وزير الخارجية السعودي فيصل بن عبد العزيز، حريصاً على مراعاة الخصوصية اللبنانية.
افتتاح الرئيس كميل شمعون عام 1952 بارقة تعاون رسمي وحقيقي بين الدولة اللبنانية والمملكة، تجسّدت بزيارة الملك المؤسس عبد العزيز، على رأس وفد رفيع الى لبنان، وتعززت هذه المرحلة الى حين نشوب الحرب الأهلية في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز.
من العام 1975 الى العام 1990 أخذت المملكة طابعاً غير مسبوق منذ حرب لبنان، التي سعت خلالها الى إيجاد حل سياسي لها عبر مبادراتٍ عديدة، كان آخرها ما بعد إنتهاء الحرب الأهلية أي مرحلة إعادة الإعمار. وعملت المملكة أيضاً خلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان في العام 1982 على تخفيف وطأة العدوان. وفي العام 1989 عقد اجتماع استثنائي لمجلس النواب اللبناني في مدينة الطائف بالسعودية، وأقرت وثيقة الوفاق الوطني، التي أكدت هوية لبنان العربية وجاءت بعدد من الاصلاحات في النظام السياسي اللبناني، والذي أصبح فيما بعد دستوراً جديداً للجمهورية اللبنانية.
مراحل متتالية انتظمت أيضاً بين العامين 1989 و2005، وتعاظمت إسهامات المملكة حينها سياسياً ومالياً، من أجل مسح آثار الحرب وإعمار ما تهدّم، وكان ذلك خصوصاً في عهد حكومات الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي كانت تربطه علاقات وثيقة بالمملكة التي كانت في هذا المسار، جاهزة لمدّ لبنان بالمساعدات والإيداعات المالية، لدعم خزينة الدولة، في مواجهة الاعتداءات الاسرائيلية المتكرّرة، ولتغطية أعباء الديون المتراكمة، ودعم سعر الليرة اللبنانية أمام الدولار بواسطة البنك المركزي.
فاجعة 14 شباط عام 2005 التي أسفرت عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري أثرت في لبنان على مختلف الصعد، وبدأت السعودية تضغط على سوريا التي لطالما كانت تحاول التلاعب باتفاق الطائف إلى أن خرج الجيش السوري من لبنان.
في العام 2006 كانت السعودية ومنذ اليوم الأول لاندلاع “حرب تموز”، تقف إلى جانب لبنان، وسارعت بعد عشرة أيام إلى وضع مليار دولار وديعة في مصرف لبنان، وقدمت هبة بقيمة 500 مليون دولار للمساهمة في إعادة الاعمار، كما أرسلت 50 مليوناً للمساعدات الانسانية، وتولت مهمة دفع كل الرسوم العائدة إلى تلاميذ المدارس الرسمية، وتبنت إعادة بناء 29 مدينة وقرية وبلدة.
أتى اجتياح بيروت في 7 أيار 2008، وبعد ذلك كان للسعودية دور في إعادة تصحيح الأمور إلى أن انتخب الرئيس ميشال سليمان في 25 أيار 2008. وبين العامين 2009 و2010 عملت السعودية جاهدة لاعادة سوريا الى الحضن العربي بتوافق تام أسفر عن استقرار نسبي في تلك الحقبة ما ولّد نموّاً اقتصادياً بلغ حجمه من 8 الى 10%. وابتدأت حينها أولى حكومات الرئيس سعد الحريري والتي بلغ حجم الاستثمارات السعودية فيها حوالي 16 ملياراً، مثلت نحو 40% من الاستثمارات العربية، في حين بلغ حجم التبادلات التجارية بين البلدين نحو 2.790 مليار دولار.
وفي العام 2014 أعلن الرئيس سعد الحريري عن هبة ملكية سعودية بقيمة مليار دولار، دعماً لبلاده في حربه على “الارهاب”، وخصوصاً بعد المعارك التي شهدتها بلدة عرسال الحدودية مع سوريا بين قوات الجيش ومجموعات مسلحة.
المراحل الأخيرة بدأت في العام 2016 وصولاً الى هذه اللحظة حيث توسّع النفوذ الايراني في لبنان على يد “حزب الله” وحليفه السرمدي “التيار الوطني الحر” خصوصاً بعد التسوية الرئاسية التي كان عرّابها رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع وأوصلت ميشال عون الى سدة الرئاسة تحت مسمّى “اتفاق معراب”. أتت استقالة سعد الحريري في الرياض في تشرين الثاني 2017 نتيجة سيطرة “حزب الله” على القرار السياسي والأمني في لبنان، ودعمه محاولات ضرب المملكة وقصفها، عبر الحوثيين، والاعتداء المباشر عليها، إعلامياً وسياسياً وعسكرياً، إلى أن كانت كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الموجّهة الى الجمعية العامة للأمم المتحدة في الأسبوع الماضي لتقطع الشك باليقين، تحت عنوان “تجريد حزب الله من السلاح”.
وبعد عودة الحريري عن استقالته اقترحت فرنسا آنذاك مؤتمر “سيدر” قبل الانتخابات مباشرة، والذي أفسح المجال أمام كل الدول للمساهمة في جمع 11 مليار دولار، لكن السعودية خطفت الأضواء كالعادة بقرار تجديد قرض بقيمة مليار دولار كانت قد قدمته للبنان في السابق، من دون أن يتم استخدامه.
وفي العام 2021 وعلى الرغم من التصريحات المسيئة التي صدرت عن وزيرين لبنانيين، أصرّت المملكة على عدم الاصغاء الى زلات اللسان التي لن تخدم المصالح بين البلدين فحافظت على دورها الاستراتيجي ودعمها للبنان.
أما اليوم وفي ظل التخبط السياسي الرئاسي، فلا يزال السفير السعودي وليد بخاري يجول بين كل الأطراف السياسية جاهداً للوصول الى حلول لاستعادة لبنان كما كان في السابق ووفقاً لما أوصى به خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله: “إن دعم لبنان واجب علينا جميعاً، ومن يقصِّر في دعم لبنان فهو مقصِّر في حقّ نفسه وعروبته وإنسانيته”.