هل يصبح لبنان كياناً قيد الدرس؟

الدكتور خطار أبودياب

يبدو “لبنان الكبير” بعد ثلاث سنوات على مئويته الأولى، في وضع حرج يلامس الخطر الوجودي. وهذا البلد الصغير الذي كان يسمى يوماً “سويسرا الشرق”، سرعان ما أصبح ضحية الصراعات الجيوسياسية في محيطه منذ أكثر من نصف قرن من الزمن. وازداد الوضع تفاقماً منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وسعي المحور الايراني الى إحكام سيطرته على البلاد.

هكذا عند استحقاق الانتخابات الرئاسية في ٢٠٠٧، ومثيلاته في ٢٠١٤ و٢٠٢٢، أو عند تشكيل الحكومات في العقدين الأخيرين، كانت تتكرر النزعة نفسها لتعطيل المؤسسات وأخذ البلد رهينة وتهديد استمرارية الدولة.

كان هناك رهان أخذ يتلاشى ببقاء لبنان واحة استقرار نسبي وسط إقليم ملتهب، أو أن ينجو “طائر الفينيق” أي الكيان اللبناني من المعاناة التي طال أمدها. لكن انعدام الولاء الوطني وغلبة الفئوية عند المكونات – الشعوب بالاضافة الى انعكاسات تصفية الحسابات الخارجية لا يقدم ضمانات ملموسة للمواطن اللبناني الخائف على حاضره ومستقبله.

للوهلة الأولى يبرز التعطيل: الجمهورية اللبنانية من دون رئيس منذ آخر تشرين الأول/ اكتوبر ٢٠٢٢؛ الانهيار الاقتصادي متواصل ولا يمكن أن تكفي تحويلات اللبنانيين من الخارج، أو أن يتم انتظار استكشاف الغاز في البلوك رقم ٩؛ تحلل الدولة ومؤسساتها مستمر والمخاطر جمة بالنسبة الى قطاع التعليم الرسمي والقطاع الصحي؛ الديموغرافيا اللبنانية تغيرت جذرياً وأكثر من نصف المقيمين هم من غير اللبنانيين؛ والمؤسسات خاضعة لمنطق التمديد والمحاصصة والتسيير… لكن استمرارية المرفق العام التي أملت تغيير الهوية الطائفية لحاكم المصرف المركزي بالوكالة، وادارة الأمن العام، دللت على أن تقديم الكفاءة على الانتماء الطائفي ممكن وفاعل.

يشارف شهر أيلول على الانتهاء وسقط احتمال اجراء الانتخابات الرئاسية، وبقي لبنان أسير اصرار “حزب الله” على الاتيان بمرشحه، وعدم قدرة الأطراف التي أيدت جهاد أزعور على بلورة مشهدية مواكبة لبيان الخماسية في الدوحة. يبقى لبنان أيضاً ضحية “التخلي أو عدم الاهتمام الدولي” اذ تنظر واشنطن اليه من بوابة أمن اسرائيل واستمرار الاستقرار من دون المقاربة الشاملة. أما باريس ففشلت منذ انفجار المرفأ الكارثي في الوصول الى أي نتيجة عملية في ترتيب الوضع اللبناني لأنها أصرّت على مقاربة أولوية التعامل مع قوة الأمر الواقع الممثلة بـ “حزب الله”. والمملكة العربية السعودية التي دعمت لبنان منذ اتفاق الطائف قررت تغيير سياستها لرفضها استمرار تغييب الدولة اللبنانية وصلاتها العربية، ولذلك أتى الاهتمام السعودي بالاستحقاق الرئاسي كي يكون فعلاً رافعة مشروع انقاذي واصلاحي، وليس تسوية عرجاء تكرّس الوضع القائم الذي أدى الى الانهيار.

ومن المعضلات عند اللبنانيين ذاكرتهم الانتقائية وعدم الاستفادة من دروس التجارب السابقة. وأبرز الدروس من أزمة ١٩٥٨ الى حروب ١٩٧٥ – ١٩٩٠، أن لبنان لا يقوم على أساس الغلبة بل وفق تسوية متجددة مهما كانت نواقصها. ويبدو أن “حزب الله” لم يستخلص دروس الاستحقاقين الرئاسيين السابقين، اذ انه في انتخابات ٢٠٠٨ على الرغم من غزو بيروت ومعارك الجبل، لم يفلح هذا الحزب في فرض مرشحه بل وافق على مرشح وسطي مع أخذه الثمن في اتفاق الدوحة الذي أفرغ اتفاق الطائف من مضمونه وأصبح غطاءً لاستمرار التعطيل. اما في استحقاق ٢٠١٦ على الرغم من تعطيل المؤسسات طويلاً، فلم يصل الجنرال ميشال عون لولا استدارة الدكتور سمير جعجع وموافقة الرئيس سعد الحريري. بالطبع، سهل خصوم “حزب الله” انتصاره ودفع لبنان الثمن. واليوم لو افترضنا وصول مرشح “حزب الله” سليمان فرنجية، سيكون من الصعب ايجاد مخارج للأزمة البنيوية المتعددة الأبعاد في ظل الغلبة واستمرار إلحاق لبنان بالمحور الايراني.

العد العكسي والشهور الصعبة 

بعيداً عن التحليلات أو المعلومات المسرّبة عن الوضع داخل اللجنة الخماسية أو الخلافات بين أعضائها، أو عن دور قطري بديل عن الدور الفرنسي، يتضح أن العد العكسي انطلق لمحاولة التوافق على رئيس أو اجراء انتخابات قبل العاشر من كانون الثاني ٢٠٢٤ تاريخ احالة قائد الجيش العماد جوزيف عون على التقاعد.

السيناريو الأرجح والأقرب الى الواقعية أن يتكرر مع الجنرال جوزيف عون ما حصل مع الرئيس ميشال سليمان. واذا لم يوافق محور “حزب الله” على هذا الترتيب فمن المستبعد أن تتحقق سيناريوهات أخرى على الرغم من الكلام عن لوائح الأسماء، أو عن انتظار المفاوضات الأميركية – الايرانية.

تعود اللبنانيون الركض وراء سراب أو الرهان على أوهام للهرب من الحقائق والوقائع. ومن دون شك، اذا لم يتم ايجاد مخرج للاستحقاق الرئاسي في الأسابيع القادمة، يمكن أن نخشى الأسوأ اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً وأن يصبح الكيان اللبناني بحد ذاته قيد الدرس في ظل استمرار مخاض اعادة تركيب المنطقة.

شارك المقال