صمود البيارتة أمام الاسرائيليين ذكرى أسطورة لا تمحى

عبدالرحمن قنديل

في مثل هذه الأيام يتذكر أهالي بيروت بطولات “قبضاياتها” عندما دافعوا شامخين عن مدينتهم في عز صيف حارق لم يضعف عزيمتهم بالمقاومة والتصدي للعدو الغاشم الذي لم يتوانى عن حصار بيروت وأهلها لأكثر من 83 يوماً وقصفها بعشرات الآلاف من القذائف والصواريخ، ولكن قساوة تلك الأيام ومرارتها لم تمنعا بيروت من الصمود والعض على جرحها، ولا أهلها من المقاومة بالتلاحم مع المقاومة الفلسطينية في صمود أسطوري كبير حتى خروج القوات الإسرائيلية مطلقة شعارها الشهير “يا أهالي بيروت لا تطلقوا الرصاص إننا مغادرون”.

في السادس من حزيران عام 1982، بدأ فعلياً الاجتياح الاسرائيلي للبنان في عملية أطلق عليها اسم “السلام للجليل”. واستخدمت إسرائيل ذريعة محاولة منظمة التحرير الفلسطينية اغتيال السفير الاسرائيلي في لندن شلومو أرجوف للإجتياح والتخلص من النفوذ الفلسطيني في لبنان مرة واحدة، فأعدّت حوالي 100 ألف من قواتها، التي تضم فرق القوات الخاصة كاملة، قوات الطيران، الدبابات، الزوارق والبوارج الحربية.

الا أن اسرائيل كانت قد نفّذت منذ 4 حزيران عمليات عسكرية تمهيداً للاجتياح الشامل، ومنها قصف موقع تابع لمنظمة التحرير الفلسطينية في جنوب لبنان في 21 نيسان، ردّت عليه المنظمة بقصف صاروخي لشمال فلسطين المحتلة في 9 أيار 1982، ثم قصف الاحتلال مرة أخرى موقعاً للمنظمة في بيروت ردّت عليه الأخيرة أيضاً في شمال فلسطين.

زعم الاسرائيليون في البداية عدم نيتهم التقدم لأكثر من 40 كيلومتراً داخل لبنان لتكوين “منطقة أمنية”، لكنهم كثّفوا من غاراتهم الجوية وقصفهم المدفعي على مناطق الجنوب ومنها صيدا وقرى النبطية والدامور وتبنين وعرنون وقلعة الشقيف، وسرعان ما أعطى وزير الحرب آنذاك ارئيل شارون أوامره للجيش للتقدّم نحو العاصمة بيروت، وقد اجتاحت قواته حوالي ثلث الأراضي اللبنانية، برعاية وضوء أخضر أميركي من إدارة الرئيس آنذاك رونالد ريغان.

الأهداف السياسية للاجتياح

جاءت أهداف هذا الاجتياح على لسان الناطق باسم الحكومة الاسرائيلية (وكان رئيسها مناحيم بيغين) آفي بارنز، وتنحصر بالآتي:

  • تدمير بنية منظمة التحرير الفلسطينية وخروجها من بيروت.
  • إقامة حكومة لبنانية مؤيدة لـ “إسرائيل”.
  • توقيع “اتفاقية تطبيع” مع الحكومة اللبنانية وضمان أمن المستوطنات شمال فلسطين المحتلة.
  • ومن المفترض إخراج القوات السورية من لبنان.

شكّل الاجتياح شرارة انطلاق حركات المقاومة الشعبية والوطنية التي كانت من النسيج البيروتي العروبي الحي، وواجهت القوات الاسرائيلية ونفّذت العمليات العسكرية والاستشهادية والتي كانت في توسّع وتطوّر مستمر، ما أجبر الجيش الاسرائيلي على التراجع.

وانتهى الاجتياح بفعل ضربات المقاومة وتراجع قوات الاحتلال الى ما بعد ما يسمى “الشريط الحدودي”. كما تم الاتفاق بوساطة أميركية على خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان مقابل التعهّد بضمان سلامة اللاجئين الفلسطينيّين وعدم السماح لاسرائيل بدخول بيروت.

وكشف مقاتل من بيروت في حديث لـ “لبنان الكبير” أن المقاومة التي أطلقها البيارتة هي مقاومة شعبية صرف لا علاقة لها بالأحزاب السياسية وإنطلق عملها من خلال عملية “الويمبي” في شارع الحمراء، وأطلقها الشهيد خالد علوان ومن بعدها إمتدت لتشمل منطقة سليم سلام من خلال المعركة التي فجر فيها المقاومون 6 آليات عسكرية إسرائيلية متمركزة على جسر سليم سلام، وانتقلت من منطقة إلى أخرى حتى خروج الاسرائيليين من بيروت.

وأشار إلى أن شباب بيروت بالتكاتف مع الفلسطينيين هم من تصدوا للاحتلال الإسرائيلي في ذلك الوقت، وكان هناك قسم لا بأس به من شباب بيروت المقاومين استشهدوا في منطقة المتحف وكورنيش المزرعة والمدينة الرياضية مدافعين عن بقاء مدينتهم، حيث كانت أشد تلك المعارك في هذه المناطق، وأدت إلى إستشهاد 4 شباب من طريق الجديدة.

ولفت إلى أن عند خروج الجيش الاسرائيلي من بيروت كانت منطقة المتحف آخر منطقة موجوداً فيها وبعدها إنسحب من المدينة الرياضية تدريجاً باتجاه منطقة خلدة.

تختلف التقديرات بشأن عدد شهداء الاجتياح وتشير بعضها إلى ما بين 17000 و19000 شهيد من اللبنانيّين والفلسطينيين والسوريّين بين مدنيين وعسكريين، بالإضافة إلى الفلسطينيّين الذين قتلوا في مجزرة صبرا وشاتيلا. وتكبّدت اسرائيل خسائر بشرية وصلت الى مقتل 376 جنديّاً في الفترة من حزيران إلى أيلول 1982 فقط، اضافة الى الخسائر المادية. وارتكبت اسرائيل خلال هذه الفترة مجازر عدّة، في صيدا والزهراني والزرارية وبئر العبد والصنائع وصبرا وشاتيلا، وعلى الرغم من أن هذه المجازر خلفت جروحاً لا تندمل وأبرزها جرح صبرا وشاتيلا، إلا أنها لم تمنع المقاومين اللبنانيين والفلسطينيين من مواصلة طريق تحرير بيروت والصمود بشتى الوسائل حتى باتوا مصدر رعب للاسرائيلي جعله يهرول نحو طريق الانسحاب من بيروت طارقاً باب الرجاء من أهلها بأن يتوقفوا عن القصف ليؤمن مخرج اً مشرفاً له ولو بالحد الأدنى.

لطالما دافعت بيروت وأهلها عن خطها العربي ومحورها العروبي ضد الاحتلالات ولا تزال صامدة وثابتة أمام الاحتلال الإيراني صموداً لا يقل عن المواجهة والملاحم الذين سطرها البيارتة بدمائهم وأبدانهم لتبقى بيروت “سيدة العواصم العربية”.

شارك المقال