أين رفيق الحريري “الماروني”؟

صلاح تقي الدين

بات واضحاً أن البحث عن هوية الرئيس العتيد للجمهورية اللبنانية يقبع في سراديب اللجنة الخماسية ولم يعد هناك أي دور لأي فريق سياسي لبناني يمكن التعويل عليه، فالممانعة أخطأت ولا تزال في تمسكها بترشيح رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية ولا ترضى عنه بديلاً، فيما المعارضة تتوافق وتتقاطع على اسم مرشح من هنا وآخر من هناك، من ميشال معوض إلى جهاد أزعور، بينما تشير آخر المعطيات الرئاسية إلى أن البحث جار عن اسم ثالث يجمع ولا يفرق، يملك برنامجاً إصلاحياً ورؤية اقتصادية قادر على تنفيذها مع حكومة تضم كفاءات مشهود لها بالمناقبية ونظافة الكف؛ باختصار شديد، البحث جار عن رفيق الحريري “الماروني”.

إنه الخيار الصعب، فالرئيس الشهيد رفيق الحريري لم يكن رجلاً عادياً، اذ فهم زواريب السياسة اللبنانية وخبرها عن كثب، وبرع فيها إلى درجة أن اسمه أصبح مرادفاً لـ “حلال المشاكل” وباني الحجر والبشر وصانع المستقبل، ولم تكن أي أزمة سياسية يغرق فيها البلد إلا مجرد غمامة عابرة كان الشهيد رحمه الله قادراً على حلها والعبور بين الألغام العديدة التي تزرع في طريقها.

إنه الخيار الصعب، لكن ليس المستحيل، وعوضاً عن غرق أرباب السياسة المارونية في البحث عن جنس الملائكة والتفتيش عن اسم شخص يناسب هذا الفريق الماروني ولا يثير غضب الفريق الماروني الآخر، أدخل البلاد في أزمة شغور رئاسي مستمر منذ نهاية “العهد القوي” للرئيس السابق ميشال عون في 31 تشرين الأول 2022، عليهم التفتيش جدياً عن رئيس يكون جامعاً للكل، ليس كل الموارنة فحسب، بل كل اللبنانيين ويملك الرؤية الاقتصادية والبرنامج الاصلاحي الحقيقي والقدرة على مخاطبة الجميع، لا بل الاستعداد لتلبية مطالب الجميع “بالجملة والمفرق”، وتشكيل فريق العمل الوزاري الذي سيساعده على العبور بلبنان من “جهنم” إلى سكة التعافي، تماماً كما فعل رفيق الحريري في العام 1992 بعد توليه رئاسة الحكومة لأول مرة على بقايا الحجارة والدواليب المشتعلة في شوارع بيروت والتي أطاحت حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي.

لا بد من أن يكون هناك من بين أبناء الطائفة المارونية الكريمة من يتمتع بمزايا الرئيس الشهيد وقدراته، فالنجاحات التي حققها موارنة لبنان سواء في الداخل أو في الانتشار مشهود لها، وغالباً ما تسمع أو تقرأ عن ماروني من أصل لبناني أصبح رئيساً لهذه الدولة أو تلك، أو رئيس مجلس نواب دولة متقدمة، أو في أقل تقدير رائداً في قطاع التجارة والصناعة في هذه القارة أو في أقاصي الكرة الأرضية، فلمَ لا يكون من بينهم “فدائي” يقبل ترؤس الجمهورية اللبنانية لكي يضيف إلى نجاحاته الشخصية نجاحاً يكون مرتبطاً بإنقاذ لبنان من المستنقع الذي غرق فيه، بسبب السياسات المارونية الانتحارية التي انتهجها زعماء الموارنة منذ نشوء لبنان الكبير والتي جرت عليهم وعلى لبنان المصائب والويلات ولم يتعلمو؟

وفي لقاء مع مصدر نيابي مخضرم، عايش الحرب الأهلية اللبنانية ثم عايش النهضة التي شهدها لبنان مع نهاية تلك الحرب وبدء عهد الطائف ومرحلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، عبّر هذا المصدر عن القرف الذي يعتريه نتيجة النقص الحاد في “رجال الدولة” الذين يتعاطون السياسة والشأن العام من منظار المصلحة الوطنية العليا، مترحماً بشدة على الحريري قائلاً: “كم نحن بحاجة إلى رجل مثله”.

رجل مثل الحريري يملك علاقات واسعة مكّنته من طرق أبواب زعماء عالميين ساعة كان يشعر بالحاجة إلى الاستئناس برأيهم أو مساعدتهم على حل أزمة داخلية ذات دوافع إقليمية أو أن ارتداداتها الداخلية مرتبطة بالموقف من هذه الدولة القريبة أو البعيدة، وكثيرون من الموارنة يتمتعون بهذه الصفات لكنهم “مغيّبون” بسبب حصر السياسيين الحاليين القرار الماروني بيدهم وهم حفنة قليلة استمرت منذ الحرب الأهلية السيئة الذكر، أو أورثوها إلى من يرون فيهم امتداداً واستمراراً لعقلهم ونهجهم “التدميري والانتحاري” نفسه الذي لديهم.

لم يشهد لبنان منذ اغتيال الرئيس الشهيد “ضربة حجر” واحدة، وكأن المطلوب من اغتيال هذا الرجل كان بدء مرحلة تدمير لبنان وانهيار مؤسساته، وبخلاف السنوات الست التي تولى فيها السلطة الرئيس ميشال سليمان، كانت كل سنوات ما بعد الحريري سنوات بؤس وانهيار ومسار واضح نحو “جهنم” باعتراف آخر الرؤساء ميشال عون.

كثيرون يعتقدون أن الرئيس الشهيد أرسى مدرسة شجّعت على الفساد، وليس المجال هنا لمحاججتهم على تفكيرهم هذا، لكن يكفي القول بأن اللبنانيين تأملوا خيراً بالحريري الذي بلسم بعضاً من جراح أصابتهم خلال سنوات الحرب، وفتح لهم أبواب الأمل بمستقبل مشرق، وكانت مساهماته الخيّرة عابرة للطوائف والمذاهب، ولذا يعتقد محبوه أن لبنان اليوم بحاجة إلى مثله لكي يستعيدوا بعض الأمل الذي فقدوه، وبعض الرجاء الذي يأملوه، سواء لاستعادة حقوقهم المنهوبة أو لضمان بقاء بلدهم الأحب على قلبهم مستذكرين قول الراحل: “ما في حدن أكبر من بلده”.

الحريري الماروني موجود، لا شك في ذلك، لكن كما كان رفيق الحريري فدائياً بقبول تولي السلطة في لبنان، على الحريري الماروني أن يكون كذلك أيضاً، فهل من يُقدم؟

شارك المقال