على “الحزب” التنازل داخلياً لأن إيران لن تتنازل خارجياً

عبدالوهاب بدرخان

لم يعد انتهاء ولاية رئيس للبنان وانتخاب خلف له أمراً بديهياً، أو قل دستورياً. ما يجري حالياً يشبه الى حدّ كبير ما حدث منذ 1982 عندما دبّر نظام الوصاية السوري اغتيال الرئيس بشير الجميل، ثم اضطر لتمرير ولاية الرئيس أمين الجميل وتعامل معه بسلبية على الرغم من التنازلات التي حصل عليها، ومنها اسقاط “اتفاق 17 أيار”. وبعد ذلك فرض نظام الوصاية شرط “مخايل الضاهر أو الفوضى”، كما نقله الموفد الأميركي ريتشارد مورفي، وقد اشتبك قائد الجيش ميشال عون مع دمشق في اشاعة تلك الفوضى حتى اللحظة التي توصّل فيها حوار مجلس النواب في الطائف الى “وثيقة الوفاق الوطني”، وبات معروفاً الآن أن نظام حافظ الأسد حصل آنذاك على تجديدٍ للوصاية وتكريسها، فدبّر بموجبها اغتيال الرئيس رينيه معوّض الذي انتُخب غداة “اتفاق الطائف” وفي ضوئه، ثم اختار/ عيّن نظام الوصاية على التوالي الرئيسين الياس الهراوي واميل لحود الراضخين لشروطه وفرض التمديد لكلٍّ منهما.

سحب النظام السوري قواته من لبنان عام 2005 بعدما اغتال الرئيس رفيق الحريري الذي حاول بتطبيقه “اتفاق الطائف” احتواء الوصاية وتكييفها ليضمن أنها لن تعرقل مشاريع الاعمار والتنمية والنهوض باقتصاد لبنان، لكن صدور القرار 1559 بإرادة أميركية – فرنسية رسم خط النهاية للوصاية السورية التي بدأت فعلياً عام 1976 باعتراف فرنسي ثم دولي. لكن شراكة نظامَي بشار الأسد والملالي في اغتيال الحريري دشّنت سريعاً الوصاية الايرانية على لبنان عبر الوكيل (“حزب الله”) الذي نفّذ الجريمة وواصلها عبر سلسلة من الاغتيالات بهدف الترهيب والتصويب على التحقيق الدولي، ثم ربطها بـ “اتفاق مار مخايل” و”حرب تموز”، مروراً باحتلال وسط بيروت، وصولاً الى “غزوة بيروت”، ومن ثمّ الانتقال الى الدوحة والحصول على “اتفاق” يعبث بـ “الطائف” لقاء تمرير انتخاب الرئيس ميشال سليمان، على مضض، إذ لم يرضَ “الحزب”/ الوصي على نهجه ولم يفكّر في التمديد له، بل اعتُبرت ولايته مجرّد تأخير للرئاسة الموعودة لميشال عون التي قاد لأجلها شغوراً دام عامين ونصف العام.

على الرغم من الشؤم الفادح والفشل الذريع للعهد المنتهي منذ أحد عشر شهراً، لم يرَ عون في التجربة الجهنمية التي ختم بها حياته السياسية سوى أنه وصهره حصّلا نفوذاً مسيحياً استطاعا الحفاظ على معظمه مع تراجعه، أما “الحزب” فلم يرَ سوى أنه تمكّن بواسطة حليفه من وضع يده على مفاصل الدولة والحكومة والقضاء ومختلف المؤسسات، وربما يمكن استثناء الجيش وقوى الأمن، لكن بحذر… أن يكون “الحزب” جاهد للحفاظ على منظومة السلطة التي اتهمها بالفساد وبالتالي تشارك معها في الفساد، وأن يستخدم أقذر الوسائل البلطجية والمذهبية لقمع “ثورة 17 تشرين”، وأن ينشئ اقتصاداً موازياً يحرم الدولة من موارد تحتاج اليها لمواجهة افلاسها، وأن يدفع الى التنازل عن حقوق لبنانية لمصلحة إسرائيل في عملية ترسيم الحدود البحرية، وأن يدير قتالاً في مخيم عين الحلوة لتوظيف الفصائل الفلسطينية في “توحيد ساحات المقاومة”… كلّ ذلك لم يمنعه من ترتيب شغور رئاسي آخر لتمرير حليف آخر الى الرئاسة، كما لو أن الكوارث التي أنزلها بالبلد لم تكفِه.

بعد الترسيم البحري فتحت إيران و”حزبها” بازاراً للمساومة على لبنان والاعتراف بالوصاية عليه. يريدان استدراج عروض للدول الراغبة في تقاسم “الأعباء” معهما، خصوصاً أنهما يسيطران بالسلاح والإرهاب وأصبحا يروّجان للغاز والنفط المرتقبين من عمليات الحفر والتنقيب في البلوك الرقم 9. تقدّم الفرنسيون الذين كانوا سهّلوا اتفاق الترسيم عبر شركة “توتال”، وعلى الرغم من استياء طهران من سلوك باريس دولياً إزاء الملف النووي وغيره فإنها لم تمانع أن يجرّب “الحزب” حظّه معها. التقط الفرنسيون ما وصفوه بـ “الحلّ الواقعي” (رئيس ممانع + رئيس وزراء معتدل وجدّي)، وفي توصيف آخر يكون رئيس الجمهورية موالياً مؤكّداً لإيران ورئيس الوزراء شخصية مقبولة يمكن ترويجها، تحديداً لدى السعودية. تبيّن لاحقاً أن هذا الحلّ لم يكن واقعياً أبداً، لا محلياً كونه ينطوي مسبقاً على صراع بين رئيس يسيّره “حزب إيران” ضد الدولة، وبين رئيس وزراء مطلوب منه تخطّي عراقيل “الحزب” لاستعادة الدولة ودفع مشروع التعافي الاقتصادي. كما لم يكن واقعياً خارجياً كونه ينطوي على اعتراف بـ “دولة الحزب”، وهذا “الحزب” مصنّف على نطاق واسع كـ “منظمة إرهابية”، سواء رسمياً أو ضمنياً، بحسب الدول.

ويحاور القطريون الآن مختلف الأطراف، ومنها “الحزب”، وكذلك إيران، آملين في إزالة العقبات التي استعصت على الفرنسيين، وإذا نجحوا يحصلون على تفويض كامل من “الخماسية”. ومن الطبيعي أن يسترشدوا بتجربة مؤتمر الدوحة عام 2008 علّها تفيد في إنضاج فكرة “الدوحة 2″، لتكرار وضع الجميع في مكان واحد خارج بيئة الصراع الداخلي، وإدارة حوار غير مباشر في غرف متجاورة ومغلقة، بغية التوصّل الى “رئيس توافقي”. في المرّة السابقة كانت الظروف مختلفة، إذ ذهب “الحزب” لترجمة نتائج “غزوة بيروت” سياسياً، ومع أن “اتفاق الدوحة” اصطنع استقراراً موقتاً في الحكم، إلا أن “الحزب” استغلّه لتوجيه ضربة أولى الى “اتفاق الطائف” (الثلث المعطّل) وراح مع حلفائه يبني عليها لاستكمال وضع اليد على الرئاسة والحكومة معاً.

في أي سيناريو محتمل – سواء كان “الدوحة 2” تتداخل فيه الأطراف المحلية مع اللجنة “الخماسية” وغيرها، أو حوارات داخلية غير مباشرة ومتأثّرة بالمواقف الخارجية – أصبح واضحاً أن “الحزب” يسعى هذه المرّة الى إقرار محلي – خارجي بأن “غزوة بيروت” غَدَت غزواً واحتلالاً لكل لبنان، مدعوماً باحتلال إيراني متوسّع في سوريا وباتفاقات اذعان وقّعها بشار الأسد. ومنذ بدأ الشغور الجديد يتوقّع “الحزب” من الأطراف المحلية والخارجية أن تتعامل معه على أساس “الأمر الواقع” الذي أقامه ولن يتنازل عنه، وإلا فلا حلّ للأزمة ولا رئيس ولا دولة ولا تعافي اقتصادياً… لا يحتاج “الحزب” الى إقرارٍ بغزوه وهيمنته بل يحتاج الى اعتراف أو مكافأة، وإلى تمويل لـ “دولته”. لكنه يعلم أنه في كل الأحوال لن يكون هناك توافق داخلي ولا خارجي على رئيس يسيّره كما يريد، أو على التقليل من صلاحيات رئيس مجلس الوزراء. أي أن “الحزب” لن يستطيع افتراض توافق الجميع على صون مصالحه أو مصالح أي من حلفائه وإلا فإن الحلّ سيكون عندئذ مجرد عبث وتخريب متَعَمَّدَين لـ “اتفاق الطائف” لفرض بحث في تعديلات دستورية ونظام حكم جديد.

هناك وهمان يُشغلان المحللين: افتراض حصول اتفاق أميركي – إيراني أو اتفاق سعودي – ايراني في شأن لبنان. ومع أن شيئاً لا يمكن استبعاده وسط التحولات في المنطقة، إلا أن هذين الاتفاقين سيتطلّبان تنازلات يصعب تصوّرها من أيٍّ من الأطراف الثلاثة إلا إذا توافقت جميعاً على “انقاذ” لبنان، وهو ما لا يبدو في أولوياتها. يمكن “الحزب” أن يتنازل لمصلحة حلٍّ داخلي، لأن إيران لن تقدّم أي تنازل من أجل حلٍّ خارجي.

شارك المقال