الرئيس العتيد… ابحثوا له عن خيمة!

أنطوني جعجع

هل بات رئيس جمهورية لبنان “ثميناً” الى الحد الذي يحتاج الى خليط من “صانعي الملوك” يبدأ من أصغر زاروب في بيروت الى أكبر مجلس في العالم؟

وهل بات هذا الرجل الذي فشل في ادارة لبنان عندما كان يملك صلاحيات مطلقة بعد الاستقلال، يديره الآن بلا أسلحة دستورية مؤثرة أو استقلالية مقبولة أو شعبية وازنة أو هيبة طاغية وحتى عسكرية شرعية؟

الجواب طبعاً لا، وقد أثبتت التجارب منذ اتفاق الطائف حتى آخر يوم من عهد ميشال عون، أن الطريق الى قصر بعبدا انتقل من “دراج” في الشام الى “دراج” في الضاحية يتقدم باصاً ينقل بعض “المتطفلين” من هنا وبعض “المكابرين” من هناك.

والجواب أيضاً، أن معظم المسيحيين اللبنانيين وفي مقدمهم الزعماء الموارنة، باتوا أكثر تعلقاً بكرسي فارغ منه بوطن دائم، وأن معظم المسلمين وفي مقدمهم الشيعة باتوا أكثر تعلقاً بالسلطة المطلقة منه بالشراكة المتوازنة.

الموارنة، وهم جميعاً “مشاريع رؤساء” بحكم التجارب والشواهد، فقدوا كل أسلحتهم الدستورية والشعبية والمالية والعسكرية، وتحولوا اما الى مجرد أصوات في البرية لا يأخذ بها أحد، وفي مقدم ذلك الحق في اختيار من يمثلهم رئيساً، والحق في تقديم مبدأ الحياد على الحروب العبثية، والحق في تدويل الحلول في غياب الاجماع الوطني، والحق في نظام تعددي لا تطغى فيه طائفة على طائفة، ولا حضارة على حضارة، ولا دين على دين ولا شعب على شعب، واما تحولوا الى مواطنين رُحَّل ينتظرون تأشيرة سفر تأخذهم الى أي مكان بعيداً من أرض المخيمات لا المؤسسات، وأرض الميليشيات لا الثكنات، وأرض العملاء لا الأوفياء، وأرض الصراعات لا التوافقات.

ولولا بعض المواقف الوطنية والجريئة التي تصدر بين الحين والآخر، لحلَّ الاقتناع الكامل والقرار النهائي بمحو هذا الكيان من الخارطة العالمية والتعامل معه على أنه مجرد سراب أو مجرد قبائل موزعة أو مجرد وطن غير جدير بالوجود.

وقد يكون في هذا العرض الكثير من القسوة وربما الكثير من التجني، لكن السؤال يبقى: أين الرئيس العتيد في نظام برلماني؟ من يمنع انتخابه ولماذا؟ ومن يفتح أبوابه أمام خيارات الغرباء؟ ومن يرفع سلاحه هنا ويفتح محفظته هناك؟ ومن يحاول تحويل الرئيس المسيحي الوحيد في هذا الشرق الى مجرد “تلوينة فاقعة” في عالم من لون واحد؟ ومن يحاول أن يجعل منه غطاء لاستراتيجية تأخذ لبنان الى حيث لا ينتمي، وتأخذ السنة اللبنانيين الى عالم غير عالمهم، وتأخذ المسيحيين الى بيئة ليست بيئتهم، وتأخذ أكثر من نصف اللبنانيين سواء الى غربة خارج ديارهم أو الى غربة داخلها؟

وقد يقول قائل: وماذا عن الجهات غير اللبنانية التي تفعل ما يفعله سواها؟ والجواب أنهم أكثر ضرباً للكيان اللبناني وأكثر تهميشاً لشعبه وأكثر احتقاراً لحكامه.

والجواب أيضاً، أن أحداً لا يمكن أن يفعل ذلك الا انطلاقاً من ثلاثة عوامل رئيسة: اما خوفاً من سلاح يشهره أحدهم، واما ارتخاء أمام أموال يعرضها أحدهم، واما انكفاء أمام حياة سياسية طاعنة في الفساد والعهر والمكر وحتى الخيانة.

والجواب أيضاً وأيضاً يكمن في سؤال واحد: لماذا نكاد نكون البلد الوحيد في هذا العالم لم يرسم حدوده بعد لا مع سوريا ولا مع فلسطين ولا مع قبرص ولا حتى بين القرى والبلدات والمدن؟ ولماذا نكاد نكون الشعب الذي يتحول الى “مرتزقة” في لحظة’؟ ويشعل “حرباً” في لحظة؟ ولماذا نكاد نكون، في نظر العالم كله، “مخيماً” يأوي فيه من يلفظه أو يخافه؟ أو أرضاً من بارود يفجرها ساعة يشاء، أو “بضاعة” يشتريها متى يشاء، أو قيادات يطوعها كيفما يشاء؟

وأيضاً، قد يكون في هذا العرض الكثير من القسوة والكثير من التجني، لكن الواقع يسأل: اذا كان الرئيس العتيد حقاً دستورياً وديموقراطياً ووطنياً فماذا يمنع انتخابه ومن يفعل ذلك ولماذا؟ واذا كان المسيحي شريكاً متوازناً فمن ينكر عليه حقوقه البديهية؟ واذا كان السني شريكاً متوازناً فمن يأخذه الى أصولية لا يريدها؟ واذا كان الشيعي شريكاً متوازناً فمن أعطاه الحق في ابتلاع طائفته ومعها كل لبنان؟

وأكثر من ذلك، من أعطى الغرب الحق في توطين من يشاء في بلادنا سواء بالمال أو بالقوة أو حتى بالعنجهية الوقحة؟ ومن أعطى أميركا الحق في ترسيم حدودنا البحرية مع اسرائيل على حساب حقوقنا التاريخية؟ ومن أعطى فرنسا الحق في اختيار رئيس مكانه في قصر بعبدا وليس في قصر الاليزيه؟ ومن أعطى قطر الحق في تسمية رئيس لبلادنا مكانه أيضاً في قصر بعبدا وليس في زواريب الجامعة العربية؟

وأكثر من ذلك أيضاً، نسأل: لماذا لا تفعل الدولة شيئاً حيال كل ذلك؟ يقول البعض انها عاجزة ومفلسة ومشرذمة وخائفة، وهذا كله صحيح الى حد كبير.

لكن لا بد من السؤال: أين تذهب أموال الأمم ومن يقبضها أو يوزعها أو يتقاسمها؟ ولماذا لا يتهالك الجيش لمنع السوريين من الابحار الى الغرب ما دام ابحارهم سلاحاً ذا حدين؟ ولماذا لا تتعلم السلطة من الرئيس رجب طيب اردوغان وتستعمل اللاجئين السوريين “بعبعاً” كلما عاكسه الغرب أو تآمر عليه أو تقاعس أمامه؟ ولماذا لا تستخدم قواه الأمنية البرية والجوية والبحرية والمخابراتية وحتى ألغامه لمراقبة حدوده ما دام أمن لبنان وشعبه ووجوده على المحك، تماماً كما يفعل الأردن والعراق وتركيا وصولاً الى قبرص؟

ولماذا لا تجمع السلطة هؤلاء النازحين في أمكنة محددة وتدهم مساكنهم التي تحول بعضها الى ترسانات وملاذات لأهل التهريب والقتل والتكفير؟ هل يحتاج كل ذلك الى اجتماعات دولية طارئة لايجاد حل يقوم على قول فيلسوف كندي كتب ذات يوم: “السياج الجيد يصنع جاراً جيداً”، وعلى قول تلك الأم لابنها الملك بعد سقوط الأندلس: “لا تبكِ كالنساء على مُلك لم تحافظ عليه كالرجال”؟

المسألة ليست مسألة قصر فارغ ورئيس غائب، المسألة أن بعضهم ينظر الى الكرسي على أنه حق مكرّس من حقوق السماء، وبعضهم ينظر اليه على أنه بات حقاً من حقوق السلاح.

وكل ما عدا ذلك ليس سوى العيش في وطن صار خيمة لأبنائه وخيمة صارت وطناً للآخرين.

شارك المقال