ملف اللاجئين ومخاطره… تقاعس الدولة عن مسؤولياتها (١)

زياد سامي عيتاني

“ان التهريب عبر الحدود بات تهديداً وجودياً، ولم نعد قادرين على التحمّل، وقد نضطر إلى الاشتباك معهم، على الرغم من قلة العديد”… هذه الصرخة المدوية التي أطلقها قائد الجيش جوزيف عون، بشأن ملف اللاجئين السوريين، تعبّر عن مقاربة حقيقية للمخاطر الجمة التي يخشى من تفجرها في أي وقت، في ظل إستمرار تقاعس الدولة عن القيام بدورها، منذ بداية الحرب السورية، بفعل الانقسام السياسي من جهة، والتواطؤ من جهة أخرى. فمنذ منتصف الصيف، يشهد لبنان موجة جديدة وكبيرة من النزوح السوري، على الرغم من إنحسار الأعمال العسكرية في سوريا، وبالتالي إنتفاء مبرر هذه الموجات من النزوح بأعداد هائلة، بحيث يتسلل يومياً إلى الأراضي اللبنانية عبر المعابر غير الشرعية عشرات الآلاف من السوريين، من فئة عمرية شبابية، بحماية من “قوى الأمر الواقع” التي تتولى عملية “التهريب المنظم”، وبتنسيق سافر بين جانبي الحدود!

ومع موجة النزوح الجديدة، التي لا تزال مستمرة، على الرغم مما يحاول أن يقوم به الجيش اللبناني منفرداً في هذا الاطار، فإنه يزداد يوماً بعد يوم، الضغط على لبنان، وسط مخاوف حقيقية من توقيت هذا النزوح غير المبرر “إنسانياً” وأبعاده وأهدافه، ما يخشى من أن يكون ثمة دور إرهابي أو تفجيري على الصعيد الأمني، محدداً لهؤلاء النازحين الشباب القيام به، خصوصاً وأنه يستحيل معرفة إنتماءاتهم، وما إذا كان هناك من يحركهم وبالتالي تحديد ساعة الصفر لقيامهم بما هو محدد لهم!

لذلك، عاد ملف اللاجئين السوريين إلى الواجهة من جديد، وغطى على ما عداه من ملفات التأزيم، بما فيها الشغور الرئاسي، بحيث باتت هذه القضية بالنسبة الى مسؤولين أمنيين تخفي بين طياتها أخطاراً كبيرة تهز الاستقرار الاجتماعي والأمني في لبنان. وإلى جانب المخاوف من التداعيات الأمنية لهذا الملف، فان أوساطاً سياسياً باتت تتحدث عن “مؤامرة” دولية تهدف إلى توطين اللاجئين السوريين في لبنان، في ظل عدم جدية المجتمع الدولي بمساعدته على معالجة هذا الخطر، الأمر الذي يخشى معه من إحداث تغيير ديموغرافي جذري في التركيبة المجتمعية اللبنانية، من شأنه نسف التوازنات الوطنية، تمهيداً لإحداث تغيير جذري في طبيعة النظام اللبناني ومرتكزاته الكيانية والتعايشية، فضلاً عن هويته السياسية والفكرية ووظيفته ودوره على الصعد كافة.

على وقع ما بلغه ملف اللاجئين من أخطار محدقة تنذر بانفجار لا يمكن التكهن متى يبدأ وكيف ينتهي، لا بد من العودة إلى الأسباب الحقيقية لهذه الأزمة “البركان”، وكيف بلغت هذا الحجم التراكمي؟ ومن أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه؟ من دون أن ننسى أن السلطة اللبنانية المتخبطة سياسياً، فضلاً عن الأحزاب اللبنانية التي إنقسمت بشأن مواقفها من الحرب السورية، تتحمل المسؤولية مجتمعة متكافلة، لأن خلافاتها حالت دون تمكين أجهزة الدولة اللبنانية من القيام بمسؤولياتها للتعاطي مع موضوع اللاجئين بما كان يستحق من جدية، نظراً الى تداعياته الخطيرة.

وعليه، فإن الدولة لم تضع سياسة عامة لتنظيم وفود اللاجئين السوريين وضبط وجودهم في لبنان، ولم تنشئ مراكز إيواء موقتة برعاية الأمم المتحدة وتحت سيادة الدولة اللبنانية في المناطق الحدودية منذ العام 2012، ولم تضع سياسة العودة من خلال الطلب من الأمم المتحدة وضع الملف على جدول أعمال مسار جنيف للحل السياسي في سوريا، وكذلك لم توقع بروتوكول تعاون بين الدولة اللبنانية والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين، بما يضع هذه الأخيرة أمام مسؤولياتها لبدء تنظيم العودة.

وفي سياق عرض غياب الدولة أو تغييبها عن تحمل مسؤولياتها حيال هذا الملف، لا بد من التركيز على مسألة أساسية، إذ ان الخطأ الأول الذي ارتكبته هو تسمية “نازحين” بدل “لاجئين”، لأن القانون الدولي يعتبر أن كل شخص اجتاز الحدود الدولية لبلده بات لاجئاً، وأن صفة اللجوء وفق القانون الدولي لا تنطبق على جميع السوريين في لبنان، باعتبار أن الدول عادة تعطي خلال الأزمات لجوءاً أولياً لجميع الوافدين، وبعد ذلك تقوم بإعادة النظر في وضعية اللاجئ وذلك بالتنسيق مع الأمم المتحدة لمعرفة مدى استحقاقه لصفة اللجوء، وبالتالي فإن التقويم يتبدل بتبدل الظروف التي دفعته الى الهجرة من بلده. وإذا أجرت السلطات اليوم “التقويم” على اللاجئين في لبنان، وهذا أمر يتطابق مع القوانين الدولية وحقوق الانسان، فإن نحو 60 في المئة من المشمولين باللجوء تسقط عنهم الصفة ويمكن إعادتهم إلى بلادهم. وعدم القيام بهذا الاجراء قرار سياسي لإبقاء ملف اللجوء ضمن التجاذبات السياسية، خصوصاً مع غياب الرقم الاحصائي الموحد، وتصنيف هؤلاء بين لاجئين وعاملين، وموجب تسجيل الولادات في سجل الأجانب! فالدولة اللبنانيّة إنسحبت من مسؤوليّتها في تنظيم هذا الوجود وإدارته مُتحجّجة بشبح التوطين، اذ توقفت في العام 2011، عن تسجيل اللاجئين وحوّلت هذه المهمّة إلى مفوّضية الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين، بحيث تخلّت عن تكوين قاعدة بيانات عن ديموغرافيا اللجوء، ما أضعف قدرتها على فهمها والاستجابة للأزمة على مختلف الصعد بما فيها تنظيم سوق العمل.

جراء كل هذه التراكمات الناتجة عن إستقالة الدولة اللبنانية من القيام بواجباتها، مقرونة بتقاعس المجتمع الدولي عن الوقوف الى جانب لبنان في مساعدته على تحمل أعماء النزوح، تتكاثر الأرقام المرعبة والاحصاءات على مختلف الصعد، من ولادات وطلاب وتأثير على البنى التحتية والاقتصاد، مروراً بمصادرة أسلحة وأجهزة في المخيمات، وصولاً الى محاولات تنظيم ذاتية فيها، جميعها تدل على مدى الخطورة التي بات يشكلها هذا الملف على إستقرار لبنان الأمني والاجتماعي والاقتصادي، إضافة إلى كيانيته وتوازناته الديموغرافية.

على الرغم من الخطر الذي ينذر بإنفجار لا يمكن لأحد التكهن بتوقيته ولا بتداعياته الكارثية على لبنان ووجوده، فإن جميع الفرقاء اللبنانيين وكذلك ما تبقى من سلطة، تحركهم خجول للغاية، ويصحّ القول فيه انه غائب، ولا يلامس جزءاً صغيراً من الأزمة، بحيث تبقى جميع الطروح عاجرة عن ملامسة عمق الأزمة، وتتداخل فيها السياسة لتحرفها عن مسارها، فتتحول من مطلب وطني جوهري وملح وأساس الى مطلب فئوي يستعمل في النكايات السياسية، وتحمّل أطراف لبنانية أطرافاً أخرى المسؤوليات، فتتحول الأمور إلى مزايدات شعبوية، وفي جزء منها عنصرية، فيما لبنان يعيش خطراً وجودياً كما وصفه قائد الجيش!

شارك المقال