“طوفان الأقصى”… تخطيط وتنظيم محكمان

زياد سامي عيتاني

في ساعة مبكرة من صباح أمس السبت، وهو يوم إجازة رسمية في إسرائيل، استيقظ سكان قطاع غزة على أصوات إطلاق رشقات كثيفة من صواريخ المقاومة، سرعان ما اتضح أنها للتغطية على حدث أكبر تمثّل في اقتحام عشرات المقاومين السياج الأمني من عدة محاور، واجتياح مستوطنات ومواقع عسكرية في ما يعرف بـ”مستوطنات غلاف غزة”. فعند الساعة السادسة والنصف صباحاً، دوّت صافرات الانذار في مناطق مختلفة من مستوطنات “غلاف غزة” والجنوب، وسرعان ما توسعت دائرة الصافرات لتطلق في منطقتي القدس وتل أبيب. لم يكن إطلاق صافرات الانذار بالأمر المفاجئ، وفقاً لمحللين إسرائيليين، فهو أمر اعتاده سكان الجنوب و”غلاف غزة”، لكن “حماس” باغتت إسرائيل وشنت حرباً من جميع الجهات بحراً وبراً وجواً.

وبدأ الهجوم من دون سابق إنذار بينما كان انتباه الجيش الاسرائيلي ومؤسسته الأمنية موجهاً نحو الضفة الغربية، في وقت كانت فيه الاستعدادات على حدود غزة ومحيطها روتينية مؤخراً. وتمكن عشرات المقاتلين من “كتائب القسام” من التسلل من قطاع غزة والدخول إلى المستوطنات في الجنوب، والسيطرة لساعات طويلة على 21 موقعاً إسرائيلياً في عملية عسكرية وصفت بـ”النوعية” حتى من المحللين الإسرائيليين أنفسهم. فبصورة مباغتة وتحت غطاء كثيف من الصواريخ، فاجأت “كتائب الشهيد عز الدين القسام”، الذراع العسكرية لحركة المقاومة الاسلامية “حماس”، الاحتلال الاسرائيلي بالعملية العسكرية، بحيث بدا لافتاً التخطيط المحكم للمقاومة الفلسطينية باستخدام أساليب متنوعة براً وبحراً وجواً في تنفيذ مخطط معد له مسبقاً. وهذا ما وضعته مصادر فلسطينية في إطار “القدرة الكبيرة للمقاومة على الإبداع في اختيار التوقيت المناسب والفعل المباشر لأخذ زمام المبادرة”، إذ ان من أهم نتائج عملية “طوفان الأقصى” ضرب الجبهة الداخلية للاحتلال وزعزعة الثقة بالمنظومة العسكرية والأمنية، التي أثبتت هشاشتها عبر النجاح الباهر لبضع عشرات من المقاومين بأسلحة خفيفة في السيطرة على مستوطنات ومواقع عسكرية، انطلاقاً من القطاع الصغير والمحاصر والمراقب على مدار الساعة بالطيران وبأحدث التقنيات.

وفي هذا الاطار، يؤكد خبير في الشؤون العسكرية أن اطلاق “حماس” ما يُقارب الـ 5000 صاروخ (بحسب بعض المعلومات 7000 صاروخ) من مختلف الأنواع، أمر يدّل على أن لدى هذه الحركة الفلسطينية عمقاً لوجيستيّاً مهمّاً.

ويضيف: “ربما تعمّدت حماس إطلاق هذا الكم من الصواريخ لاغراق الدفاعات الجويّة الاسرائيليّة (Overwhelming) وتحضيراً لعمليّة بريّة لم يتوقّعها الجيش الاسرائيلي، وضمناً استخباراته”. لكن الخبير نفسه يلفت إلى عاملين في غاية الأهمية إعتمدتهما المقاومة للمرة الأولى وينطويان على أبعاد إستراتيجة متقدمة، يتمثلان في عملية إنزال مظليين على المستوطنات، والسيطرة على الأرض داخل فلسطين المحتلّة.

ووصف المراسل العسكري للقناة 13 الاسرائيلية ألون بوكير ما وقع صباح أمس السبت في “غلاف غزة”، والبلدات الاسرائيلية في الجنوب، بـ”حرب شوارع”، مشيراً إلى أن عشرات المسلحين من “حماس” تسللوا بمعدات وآليات عسكرية وشرعوا بعملية لم تعهدها إسرائيل حتى منذ حرب 1948. وأوضح بوكير أن عنصر المفاجأة الذي وظفته “حماس” أحدث صورة انتصار من اللحظات الأولى لاطلاق الرشقات الصاروخية، إذ سيطر العشرات من مسلحي “كتائب القسام” على بلدات إسرائيلية، في عملية نوعية لم تعهدها إسرائيل من قبل. ولفت إلى أن قوات الأمن الاسرائيلية بمختلف أذرعها لم يكن لها أي حضور ميداني في الساعات الأولى، إذ كانت السيطرة في تلك المرحلة لـ “كتائب القسام” في “غلاف غزة” وبلدات الجنوب، وهذا إخفاق لقيادة الجبهة الداخلية.

الطرح نفسه تبناه المحلل العسكري ألون بن دافيد الذي أكد أن “إسرائيل سواء على المستوى العسكري أو الأمني كانت متفاجئة ومصدومة من الحرب التي شنتها حماس على الجنوب”. وقال: “هناك صعوبة في فهم ما حدث، فلم يتوقع أحد في إسرائيل حرب يوم غفران ثانية، وبالذات من غزة”.

أضاف بن دافيد: “على الرغم من مرور 5 ساعات، لم يخرج أي مسؤول إسرائيلي رسمي للجمهور الاسرائيلي الذين التزموا الصمت، وخرجوا للجمهور عبر كلمات مسجلة”.

إذاً، للعملية دلالات مهمة على الصعيد العسكري الاستراتيجي:

– نجاح المقاومة في التمويه والمباغتة وتضليل الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية. وإذا كانت هذه العمليّة قد فاجأت أجهزة الأمن الاسرائيليّة فهذا يعدّ إنجازاً مهمّاً في عملية الخداع. ألم يقل صان تسو: “إن الحرب تقوم كلّها على الخداع”؟

– اختيار تاريخ العملية له دلالة رمزية لدى العمق العربي والاسلامي لارتباطه بانتصار أكتوبر المجيد، وكأن المقاومة تريد أن تستنهض الأمة من جديد وتذكرها بأمجادها.

إن تعقيدات هذه العملية وحجمها قد يعنيان أن التحضير لها كان قد بدأ منذ وقت طويل. والتحضير والتخطيط لها، بثلاثة أبعاد، البرّ، والجو، والبحر، قد يعني أن المقاومة إستطاعت القتال على طريقة القتال المُشترك (Combined). وعليه، فإن قدرتها على الحفاظ على سريّة التحضيرات لهذه العمليّة كانت مميّزة. وكشفت مصادر متابعة أن “الفصائل وخلال الأسابيع الأخيرة كانت تراقب عن كثب التحركات الاسرائيلية على الحدود، وتتبع مسار التحرك للجنود والأماكن التي يتحصنون فيها”. وتعمّد عدد من المقاومين الاحتكاك المباشر مع الجنود الاسرائيليين على طول الشريط الحدودي من خلال مسيرات العودة، وتمكنت المقاومة من التعرف على نقاط الضعف والثغرات في الجدار الأمني لتسهيل عملية الاختراق، من دون أن تلاحظها قوات الجيش على الحدود.

أضافت المصادر: “تم تحديد ساعة الانطلاق لبدء المعركة بإطلاق وابل من الصواريخ تجاه مناطق وسط إسرائيل وجنوبها، للتغطية على عملية اقتحام الحدود التي تمت بسرية وبسرعة قياسية”. وهذا ما جعل قوات النخبة مهيأة للدخول بصورة سريعة ومفاجئة قبل انتشار الجيش وإنهاء المهمة بأقصى درجة من الانضباط وبأقل الخسائر الممكنة.

عملية “طوفان الأقصى” النوعية ونتائجها التي أصابت العدو الصهيوني بالذهول وبصدمة كبيرة، سيستغرق وقتاً طويلاً في التخبط، حتى يفيق من تداعياتها، جعلت المقاومة تفرض قواعد اشتباك ووقائع ميدانية جديدة، بعدما نجحت في أن تعكس المعادلة القائمة منذ 100 عام بأن الاحتلال وحده هو من يفرض قواعد الاشتباك ويحددها.

شارك المقال