أميركا أنقذت اسرائيل… ماذا عن غزة؟

أنطوني جعجع

تعرف اسرائيل أنها مضطرة الى خوض أقسى حروبها وربما آخرها حتى لو لم تكن راغبة في خوضها أو حتى واثقة من كسبها، بعدما وضعها “طوفان الأقصى” أمام واحد من خيارين لا ثالث لهما، اما الأرض في مقابل السلام واما الحرب في مقابل الحرب.

وقد تكون هذه من المرات النادرة جداً التي تجد اسرائيل نفسها أمام مأزق خطير كهذا، ولعلها أيضاً من المرات النادرة التي يجد الفلسطينيون أنفسهم في أقرب مسافة نحو انتصار يمكن أن ينقلهم من المخيمات الى المؤسسات ومن الجبهات الى المفاوضات.

وتعرف ايران في الجهة المقابلة أن ما جرى خرق “الخط الأحمر” في شكل دراماتيكي ومباشر، ووضعها قسراً أو عفواً أمام واحد من خيارين: اما الاكتفاء بحصر القتال داخل اسرائيل بسلاح حركة “حماس” وشعب غزة في معركة لا أحد يعرف كيف تنتهي، واما نقلها الى الخارج، وتحديداً الى لبنان لتجد نفسها هذه المرة في مواجهة مباشرة مع الجيش الأميركي وحلفائه في البحر والجو، اضافة الى اسرائيل.

ويكشف خبراء عسكريون أن الارتباك الذي يشعر به الايرانيون يعود الى خطأ في الحسابات العسكرية والسياسية معاً، لافتين الى أن طهران ترى أن مقاتلي “حماس” أخطأوا استراتيجياً عندما خاضوا في غلاف غزة عمليات قتل وأسر وترويع، بدل التمركز فيه وتحويل سكان المستوطنات وجنودها الأسرى اما الى رهائن واما الى دروع بشرية، وجعل الرد الاسرائيلي معقداً إن لم يكن شبه مستحيل، وكذلك عندما ترددوا هم في استغلال الانهيار العسكري والسياسي في تل أبيب وفتح كل الجبهات في وقت واحد.

وما ينطبق على أجواء ايران ضمناً ينطبق علناً وفي شكل كامل على “حزب الله” الذي يجد نفسه كالنمر المكتوف أمام أثمن فرصة يمكن أن يتلقفها للزحف نحو القدس، وذلك لأنه يعرف أن الحرب هذه المرة لا تشبه “حرب تموز” في العام ٢٠٠٦ لا من حيث الظروف الدولية، ولا من حيث المكان ونوعيات القوى المتورطة في القتال، ولا من حيث الخريطة المعدة للشرق الأوسط الجديد.

ويعرف “حزب الله” أيضاً، أنه تأخر كثيراً في ملاقاة حركة “حماس” التي دعته منذ اللحظة الأولى للانضمام الى المعركة، ويعرف أيضاً أنه يخاطر بتهميش مصداقيته أمام اللبنانيين الذين يراهنون على سلاحه واللبنانيين الآخرين الذين يشككون في أهدافه، وانتقل الى المقعد الثاني خلف البندقية الفلسطينية التي حققت في “طوفان الأقصى” وفي غضون ساعات قليلة، ما لم تحققه الجيوش والمقاومات العربية واللبنانية منذ العام ١٩٤٨.

ويكشف مصدر قريب من الضاحية الجنوبية، أن تردد “حزب الله”، حتى الآن على الأقل، ألقى بثقله السلبي على الرأي العام المحلي الذي يسأل كيف يمكن له أن يخوض حرباً مدمرة من أجل تحرير سمير القنطار ولا يخوضها من أجل تحرير القدس أو حتى شبعا وتلال كفرشوبا؟

ويشير المصدر الى أن هذا التردد يعود على الأرجح الى أمرين أساسيين: الأول موقف ايران الذي تنصل من العملية ونفض يديه منها بعدما توجهت أصابع الاتهام اليه، والثاني عندما أدرك أن فتح جبهة جديدة لن يكون محصوراً في مكان واحد وضد عدو واحد، بل سيتخذ شكل حرب مباشرة مع الجيش الأميركي الذي شكل طوقاً عسكرياً وسياسياً وديبلوماسياً سريعاً حول تل أبيب، محذراً الايرانيين وحلفائهم من أن أي قوة قتالية تقترب من الحدود أو تتجاوز “حماس” قد تعني الدخول في حرب مباشرة بين الطرفين.

ويرفض المصدر المقارنة بين ما جرى في غلاف غزة وما جرى في بيروت في ثمانينيات القرن الماضي، قائلاً: “ان قوات المارينز اليوم ليست محاصرة في العاصمة اللبنانية بين سلاحي سوريا وايران وحلفائهما، وان الحاملة جيرالد فورد ليست البارجة الشهيرة نيو جيرسي، وكذلك الحاملة ايزنهاور التي أبحرت نحو المنطقة، وان اسرائيل هي التي تقاتل في شوارعها هذه المرة في معركة وجود وليس في الشوارع اللبنانية”.

وأكثر من ذلك، هناك أمر لم تكشفه واشنطن في العلن على الأقل، وهو أنها تملك الآن الفرصة التي انتظرتها طويلاً، وهي الانتقام لجنودها الـ ٢٤١ الذين قتلوا في بيروت في تفجير انتحاري تصر على اتهام “حزب الله” بتنفيذه، اضافة الى ديبلوماسييها الذين قتلوا في تفجير سفارتها في عين المريسة أولاً وفي عوكر ثانياً.

والواقع أيضاً أن ايران التي تسعى بدورها الى ثأر موعود وهو الانتقام لقائدها قاسم سليماني، أوفدت وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان الى شركائها في الممانعة، ليبلغ “حزب الله” تحديداً، أن الحرب هذه المرة لن توفر طهران نفسها، لافتاً الى أنها ستكون حرباً مع جيشين يملكان قوة نارية هائلة، الأول اسرائيلي يضرب بجنون غير مسبوق، والثاني أميركي مستعد للدخول في حرب شبه عالمية لحماية محطته الاستراتيجية الوحيدة في الشرق الأوسط، بعدما نافسته روسيا والصين في كسب ود الكثير من حلفائه العرب.

ويذهب المصدر بعيداً الى حد القول ان قصف مطاري دمشق وحلب قبيل وصول عبد اللهيان الى العاصمة السورية، لم يكن الا “رسالة” اسرائيلية لا تبرئ طهران مما جرى في ذلك السبت المذل، على الرغم من أنها لا تملك، شأنها شأن الأميركيين، أي أدلة دامغة على ذلك، وهي رسالة قرأتها ايران جيداً واتخذت على أساسها موقفاً يحرص حتى الآن على الأقل على لعب ورقة “حماس” وحدها والابقاء على الأوراق الأخرى غير مستهلكة أو غير مستنفدة في صراع يبدو أنه سيكون مكلفاً وطويلاً.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، ماذا لو أقدمت اسرائيل واقتحمت غزة براً؟ وماذا لو أخطأ أحد الطرفين في الضغط على زر ممنوع المس به؟ والى أي حد يمكن أن يلعب الطرفان لعبة التأرجح على حافة الهاوية؟

وأكثر من ذلك ماذا لو أقدمت اسرائيل على قصف مراكز تابعة لحركة “حماس” في عمق لبنان كما تفعل في عمق سوريا؟ وماذا لو قررت ايران من خلال “حزب الله” قبالة المتوسط، أو “الحشد الشعبي” والحوثيين قبالة الخليج، التحرش بالسفن الحربية الأميركية لامتحان مدى جديتها في فتح وكر الدبابير في المنطقة؟

أسئلة كثيرة لا تملك جواباً ناجعاً، لكن أصدق ما سجل حتى الآن جاء من كييف عندما حذر الرئيس فولوديمير زيلينسكي من أن تخطف حرب غزة الأضواء مما يجري في أوكرانيا، متخوفاً من أن تستهلك هذه الحرب أو أن تنحرف ترسانات أميركا وحلف الأطلسي الموجهة منذ نحو عامين نحو جبهته المشتعلة مع روسيا.

والواقع أن مخاوف زيلينسكي كانت في محلها، في وقت نجحت روسيا في الافادة من الارتباك الغربي لتحقيق مكاسب على الأرض في شرق البلاد، وفي انطلاق تكهنات غربية لم تستبعد أن يكون ما جرى في غلاف غزة توافقاً روسياً – ايرانياً مشتركاً يهدف الى تخفيف الضغط عن موسكو في حربها مع أوكرانيا، والى تخفيف الضغط عن طهران في صراعها مع الغرب، فضلاً عن فتح جبهة أخرى تكون فيها الولايات المتحدة الطرف الذي يتلقى الضربات لا التي يسددها.

في اختصار، لقد أنقذت أميركا حليفها الاسرائيلي في الشكل المعنوي على الأقل، محاولةً في الوقت عينه أن تلجم الهجمة الاسرائيلية المتوحشة على مدنيي غزة سعياً الى تهدئة الجبهات الأخرى ما أمكن، على أن تجد “حماس” من يلجمها أو من لا يتركها وحيدة في الميدان.

وفي اختصار أيضاً الكل ذاهب الى حرب يقول إنه لا يريدها، والكل يراقب ما يُطبخ في طهران التي تملك قرار التوسع في الحرب أو قرار ضبطها، وأيضاً ما يدور في تل أبيب التي اختارت خوض “حرب انتحارية” هذه المرة، في وقت يقف الشرق والغرب معاً على أعصابهما، لا سيما في لبنان الذي خرج عفواً من “الحقل التاسع” خالي الوفاض، خائفاً من الدخول قسراً حقل ألغام يمتد من الجنوب الى الخليج.

شارك المقال